shopify site analytics
عجلة طائرة اليمنية لم تفتح بعدن كادت ان تقع كارثة - انشطة بحثية زراعية في مديرية بني الحارث - 13 دولة تحذر إسرائيل من الهجوم على رفح - مصطفى بكري يكشف سرا عن سيارات العرجاني - لماذا لم يلق الأسد كلمة في قمة المنامة؟ - الأمم المتحدة: نقص التمويل كارثي في السودان - تحذير بوتين للغرب يثير هلع الامريكان - القدوة يكتب: الاحتلال وسجله المروع في تهجير الشعب الفلسطيني - حشود مليونية بالعاصمة صنعاء في مسيرة "مع غزة جهاد مقدس ولا خطوط حمراء" - صلح قبلي ينجح في إنهاء قضية قتل بين آل ناجي وآل القضايا من بني حشيش في صنعاء -
ابحث عن:



صنعاء نيوز - حين يبدأ الإعلام الأميركي بالتركيز على القدرة العسكرية لبلدٍ ما، والتعظيم من شأن جيشه وصواريخه وخطره،

الثلاثاء, 02-مايو-2017
صنعاء نيوز/عامر محسن -

كوريا: حرب التّاريخ

عامر محسن

هناك الكثير مما هو مشترك بين تجربتنا كعرب وبين ما جرى في شبه الجزيرة الكورية خلال هذا القرن. مثلما تمّ رسم الحدود في العديد من دول المنطقة، حصل التّقسيم بين الكوريتين بشكلٍ شبه اعتباطيّ، في اجتماعٍ دام أقلّ من ساعتين بين ضابطٍ أميركي وآخر سوفياتي برتبة كولونيل عام 1945، ولم يكن أحدٌ منهما يعرف شيئاً عن كوريا (هم أتوا الى شبه الجزيرة لمحاربة اليابان، بل إنّ الجيش السوفياتي، بحسب أندري لانكوف، لم يكن قادراً في المرحلة الأولى حتّى على التّفاهم مع السكان المحليين، إذ أحضر معه حصراً مترجمين للغة اليابانية).

في تلك الفترة المتاخّرة من الحرب العالمية الثانية، لم تكن الحرب الباردة قد ابتدأت بعد، والسوفيات والأميركيون يحرصون على صون التفاهمات واحترام مناطق النفوذ التي تمّ الاتّفاق عليها وعدم التصادم ببعض، فدفعت كوريا الثمن وقسّمت الى جزئين.
على الخريطة، قد تكون «القسمة» بدت منطقية بالنسبة الى الضّبّاط الذين قرروا مصير البلد، فالشطران يبدوان متساويين في الحجم. ولكن، في الواقع، كان التقسيم يجافي كلّ الضرورات التاريخية والبشرية والاقتصادية. سكّان كوريا الجنوبية يفوقون بمرّتين عدد السكان في الشمال، ومع أنّ الشمال يحوي موارد معدنيّة وفحماً حجريّاً، الّا أنّه جبليّ ذو مناخٍ بارد، يفتقر الى السهول الزراعية الموجودة في الجنوب، وليس في وسعه اتّباع سياسة تنمية زراعية، وهو يقدر بالكاد على انتاج كفايته من الغذاء (لهذا السّبب اضطرّ الكوريّون في الشّمال، منذ انشاء دولتهم، الى الخوض في التصنيع الثقيل والتمدين فيما ظلّت كوريا الجنوبية، حتى السبعينيات، مجتمعاً زراعياً أساساً). إنّ فصل بيونغيانغ عن سوول وتقسيم أمّةٍ لم تعرف الحدود لأكثر من ألف سنة لا يختلف كثيراً، في سياقه وفي تأثيره التاريخي، عن الحالة العربية، حين قُسّمت بلادنا ــــ مثلاً ــــ بشكلٍ يجعل الموصل وحلب وطرابلس منعزلةً عن بعضها البعض، ثمّ قيل لنا: والآن ابنوا دولاً صناعية مكتفية!
بل أنّ السّوفيات انتبهوا، حين «اضطروا» لإنشاء دولةٍ في الشطر الشمالي، الى أنّ شمال كوريا ليس فيه شيوعيّون. فأغلب الناشطين اليساريين والمثقفين الشيوعيين في تلك الحقبة كانوا متمركزين في سوول، التي أصبحت في النطاق الأميركي، فيما المجتمع الكوري في الشمال مكوّن من مزارعين فقراء يعيشون على الكفاف، وطبقة صغيرة من الملّاك الكبار. اضطرّ الرّوس والصينيّون يومها الى اجراء «لمّة» أممية لإحضار ما يكفي من الكوادر الشيوعية لبناء دولة: بحث السوفيات في بلادهم عن الناشطين الذين يتحدّرون من أصلٍ كوري وأرسلوهم الى بيونغيانغ، جمع الصينيون عدداً كبيراً من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني من الاثنية الكورية، بل إنّ العديد من الأميركيين الشيوعيين ــــ خاصة من ولايات الجنوب الأميركي ــــ هربوا من حملة الاضطهاد التي كانت قائمة يومها وأُرسلوا الى آسيا وساهموا في بناء الدولة الجديدة. إضافة الى هؤلاء، كانت هناك بقايا المقاومة الكوريّة، التي حاولت مجابهة الاحتلال الياباني في حربٍ يائسة وفرّ من تبقّى منها الى المنفى في اوائل الأربعينيات؛ وهؤلاء كانوا من أوّل العائدين الى البلد مع طلائع الجيش السوفياتي، وكان على رأسهم كيم ايل سونغ.

ضريبة الماضي

حين تقرأ عن تاريخ كوريا، تكتشف أنّ نظرية «الاستعمار الياباني الحميد» التي يعتمدها جناحٌ من الباحثين في العلوم السياسية (مثل تشالمرز جونسون وبروس كمنغز) لتفسير نجاح وقوّة وفعالية الدّول الآسيوية (ككوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا) ليس دقيقاً بالكامل. النظرية تحاجج بأنّ الاحتلال الياباني لهذه الأقاليم قد أورثها ادارة بيروقراطية كفوءة؛ فاليابانيون، على عكس الاستعمار الأوروبي، كانوا يرفعون شعار «الوحدة الآسيوية» ويستثمرون في الكوادر المحلية ويعتمدون عليها في الإدارة. هذه النّخب التي تعلّمت وتدرّبت ضمن النظام الياباني استلمت الحكم بعد الحرب العالمية الثانية، اذاً، وهي متشبّعة بتقليد إدارةٍ راسخٍ وحديث.
في حالة كوريا، أقلّه، تراث الدّولة أقدم من ذلك بكثير، وهو يشبه الى حدّ بعيد الإدارة الصينية: كما في الصين الكونفوشيوسية، أسّست السلالات الكورية المتعاقبة نظاماً وطنياً للاختبارات يحدّد من يدخل الى البيروقراطية وينضمّ الى طبقة «أبناء الدولة» المحظية. لو أردت أن تكون موظّفاً كبيراً أو ضابطاً في الجيش في القرن السابع عشر، فإنّ عليك اجتياز سلسلة امتحانات تنافسية، مكتوبة وشفوية، تثبت عبرها اجتهادك وموهبتك (وايمانك ومعرفتك بالكونفوشيوسية). وقد استمرّت هذه المنهجيّة في انتقاء النّخب وتجديدها لأكثر من عشرة قرون. في مجتمعٍ زراعيّ آسيوي ككوريا، كان التقسيم الطبقي ــــ تاريخياً ــــ واضحاً وقاسياً. بين فئة الحكام والنبلاء الملاكين (وهي أقلية صغيرة جداً) وفئة الفلاحين الفقراء لا يوجد الا طبقة البيروقراطيين والضبّاط. وحتّى ترتقي وتنتمي الى «برجوازية الدولة» هذه، فقد كان الطريق هو عبر اثبات اجتهادك وولائك وموهبتك، والنجاح في الإنضمام الى جهاز الحكم؛ ومن المتوقّع منك ومن الجميع انضباطاً عالياً وأن لا تحاول تجاوز موقعك «الطبيعي» في المجتمع. العديد من الباحثين الذين يعرفون كوريا يشيرون الى أنّ هذه التّقاليد التاريخية والثقافية قد تساهم في شرح ظواهر في المجتمع، والعقلية الجماعية، والعلاقة مع السلطة، أكثر من النظرية الماركسية أو فكرة التنظيم الستاليني (وفلسفة «جوتشيه» التي ابتدعها كيم ايل سونغ في الستينيات، وهي ــــ نظرياً ــــ تسيّر البلد الى اليوم، ليست ماركسيّة فعلاً، ولا هي حتى تلتزم بالاشتراكية كهدف نهائي. بل هي عبارةٌ عن تأملات فلسفية «كورية» الطابع عن الفرد والجماعة والخير والشر ومفهوم الحياة الجيدة). على الهامش، الطريف هنا هو أنّ بعض هذه العادات «الثقافيّة» ذاتها، كتقريع المدير لنفسه علناً حين يخطىء أو تقديم الفرد على الجماعة، حين يراها الجمهور العالمي في كوريا الجنوبية، فهو ينظر اليها بإعجاب كمثالٍ على النزاهةٍ والجدّيةٍ وأخلاقيات العمل، أما في كوريا الشمالية، فهي توصف بسخرية على أنها تصرّفات روبوتية وتوتاليتارية.
في الوقت نفسه، فإنّ تاريخ شبه الجزيرة الكورية يعجّ بالصراع مع الهيمنة الخارجية والغزوات، سواء من منشوريا الصينية أم من اليابان، والدولة تمرّ بمراحل هيمنة أجنبية، يصبح الملك فيها مجرّد بيدق، وبين مراحل تشدّد وانعزالٍ عن العالم. كانت كوريا غالباً أوّل هدفٍِ لليابان حين تتوسّع، وتجد النفوذ الخارجي يصل الى مرحلة يغتال فيها العملاء اليابانيون ملكاً كورياً لأنّه ينحو نحو سياسات استقلالية (الامبراطورة مِن في أواخر القرن التاسع عشر). ولكنّ لا شيء من هذا يقارن بالعنف الذي مارسته الولايات المتحدة على كوريا (بشطريها). منذ تقسيم البلد والحكومتان لا تعترفان ببعضهما، العاصمة «الدستورية» لكوريا الشمالية هي مدينة سوول وكوريا الجنوبية لا تزال، الى اليوم، تعيّن «حكّاماً» للمحافظات الشمالية، مع مكاتب ومعاونين وكلّ المظاهر. عام 1950، قرّر كيم ايل سونغ توحيد البلاد بالقوّة، وراهن على أنّ الحرب ستكون قصيرة وناجحة، وهو كان محقّاً، اذ سيطرت قواته على 95% من كوريا الجنوبية خلال أسابيع قليلة (ببساطة، لم يقاتل أحد لصالح النظام في الجنوب، الذي كان يشهد أصلاً حرب غوارٍ شرسة ضد الحكومة). ثمّ تدخّلت اميركا وتحوّلت الحرب في كوريا الى صراعٍ دولي، خرج منه البلد مدمّراً بالكامل، ولكنه لم يهزم.
ألقى الطيران الأميركي على كوريا (بشطريها) كمية من المتفجرات تفوق تلك التي استخدمها ضد اليابان طوال الحرب العالمية الثانية. ضربت أميركا كوريا بأكثر من 18 ألف طن من النابالم الحارق (أي بمعدّل يقارب كيلوغراماً من النابالم لكل مواطن كوري)، وحين لم تعد هناك أهدافٌ عسكرية يمكن أن تُضرب، بدأ الطيران الاميركي ــــ فيما الجيش يتقدّم شمالاً ــــ بتدمير المدن الرئيسية، ثم المدن الثانوية، والمصانع والطرقات، وكلّ البنى التحتية التي خلّفها اليابانيّون. ردّ الصينيون على التدخّل الأميركي بالدخول في الحرب وإرسال ملايين المتطوعين الى كوريا، ولم يدخل الاتحاد السوفياتي الحرب مباشرة (وهي مسألة خلقت حزازةً لدى كيم ايل سونغ ضدّ الرّوس، وخيبة لم ينسها أبداً). نجح الصينيون والكوريون في دفع جيش التحالف جنوباً من جديد، في ما يشبه معجزةً عسكرية وسط سيطرة جوية كاملة للأميركيين؛ بل تمكنت القوات الشيوعية، التي كانت تتحرك في الليل وتقاتل على طريقة حرب الغوار ولكن بأعدادٍ ضخمة، من محاصرة وحداتٍ أميركية كبيرة وكادت أن تدمّرها بالكامل. انتهت الحرب بالعودة، تماماً، الى خطّ التقسيم الأصلي، وقد وقّعت كوريا الشمالية معاهدة وقف اطلاق النار (وليس السلام) مع الحكومة الأميركية وحدها، من دون تمثيلٍ لكوريا الجنوبية. صنعت حرب كوريا كيم ايل سونغ زعيماً أوحد للبلد، وتولّى هو والشباب الذين انضمّوا الى الحزب خلال الحرب وقاتلوا معه، فعلياً، قيادة الحزب والدولة. أغلبهم، بالمناسبة، لم يكن يحمل شهادةً مدرسية حتى، بل كانوا أبناء مزارعين فقراء عاشوا لأجيالٍ في ظلّ الجوع، ولكنهم كوّنوا النخبة التي بنت كوريا الشمالية وحكمتها حتى ثمانينيات القرن العشرين.

«المسيرة الصعبة»

على المستوى الاقتصادي، كانت كوريا الشمالية، حتى أواخر السبعينيات، أكثر نجاحاً من جارتها الجنوبية، رغم الفارق في الموارد والدعم الخارجي (حين تعرّضت كوريا الجنوبية لانهيار اقتصادي في الثمانينيات وأواخر التسعينيات، تمّ انقاذها عبر حزمة مساعداتٍ دولية، بلغت في الحالة الأخيرة عشرات مليارات الدولارات؛ أما كوريا الشمالية، حين ضربها الفيضان عام 1995، فقد تُركت لتجوع). ومع أنّ تباطؤ الاقتصاد في الشمال ابتدأ في الثمانينيات، الا أنّ الانهيار في مستوى الحياة في البلد لم يحصل الّا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. كانت كوريا تحصل على الوقود والماكينات والسلع التي لا يمكنها انتاجها من المعسكر الشرقي، مقابل سلعٍ كورية أو أرصدة بالعملة المحلية. منذ أواخر الثمانينيات، أصبحت الصين وروسيا ترفضان التصدير الى كوريا الشمالية الّا مقابل دفعاتٍ بالعملة الصعبة. ومع انهيار المعسكر السوفياتي، خسر البلد شركاءه التجاريين وعُزل في وقتٍ تحاصره فيه العقوبات الأميركية، وتمنع عنه تقريباً أي تعاملٍ خارجيّ بالدولار. ثمّ تلت ذلك الفيضانات عام 1995، التي لم تقم بتخريب المحاصيل ونسبةٍ كبيرة من الأرض الزراعية فحسب، بل دمّرت أكبر معامل الطاقة الهيدروليكية وبعض أهمّ مناجم الفحم في كوريا (فوقع البلد، إضافة الى المجاعة، في أزمة طاقة لم يخرج منها الى اليوم).
خضع البلد لتسع سنواتٍ متتالية من النموّ السالب، وعانى الكثير من السكان من سوء التغذية (يقدّر عدد الذين ماتوا بسبب قلّة الغذاء بين 1996 و1999 بما بين 300 ألف ونصف مليون كوري). عاد الاقتصاد الكوري الى النموّ منذ أوائل الألفية، ولم يعد تأمين الغذاء أو الحاجات الأساسية هو الهمّ الأكبر للنظام، ولكن الخبراء يقولون إنّه، بعد سنوات طويلة من النموّ، فإنّ حجم الاقتصاد الكوري الشمالي اليوم قد عاد فحسب الى مستواه في الثمانينيات ــــ وقد جاءت العقوبات الدولية في السنوات الأخيرة لتزيد من تشديد الحصار.
سنناقش في المقال القادم إمكانيات الحرب على كوريا، ولكن قد يكفي لشرح نظرة الكوريين الى المحتلّ الأميركي والى أرضهم، وطبيعة مجتمع الحرب الذي بنوه، حادثةٌ جرت في المنطقة المنزوعة السلاح عام 1976. كوريا معروفة بأنّها تملك حساسية من السلوك الفوقي للدول العظمى، سواء جاء من اميركا أو من الصين، وهي قامت بأعمالٍ لم تعتد عليها الدول الصغيرة في العالم الثالث في وجه الأقوياء، من نوع اسقاط طائرة تجسسٍ أميركية عليها عشرات الضباط عام 1969، أو أسر سفينة التجسّس «بويبلو» وهي خارج المياه الكورية (بمعنى أنّه: إن جئتم للتجسّس علينا، فإننا سنعتقلكم ولو خرجتم من مياهنا). في آب 1976 قُتل ضابطان أميركيان في المنطقة العازلة لأنّهما كانا ــــ مع فريقٍ مرافقٍ من الكوريين الجنوبيين ــــ يحاولون قطع شجرةٍ كانت تسدّ عليهم مدى النظر، وحصل اشتباكٌ بينهم وبين جنودٍ كوريين شماليين. الاشتباك كان يدوياً، اذ لم يكن أحدٌ من الطرفين يحمل سلاحاً، ويبدو أنّ الكوريين قد جرّدوا أعداءهم من الفؤوس والمعدّات التي جاءوا بها لقطع الشجرة وأداروها عليهم. تقول الشهادات إن الملازم الكوري الشمالي، باك تشول، جاء مع رفاقه الى الأميركيين وطلب منهم التوقّف عن العمل، فردّ عليه الضابط الأميركي بنبرة احتقار وتجاهله. حين كرّر باك طلبه للمرّة الثانية وأدار له الأميركي، ثانية، ظهره متجاهلاً، قام الملازم الكوري بخلع ساعة معصمه بكلّ هدوء، ثمّ غلّفها بمنديلٍ وضعه بعناية في جيب سترته، ثمّ صاح بأعلى صوته «اقتلوا أولاد الحرام!».


حين يبدأ الإعلام الأميركي بالتركيز على القدرة العسكرية لبلدٍ ما، والتعظيم من شأن جيشه وصواريخه وخطره، كما يحصل اليوم مع كوريا الشمالية، فإنّ هذا ليس الّا مدعاة للقلق. كوريا الشمالية هي أصغر بكثير من كوريا الجنوبية، واقتصادها أضعف، فيما سوول تمتلك تكنولوجيا عسكرية متقدّمة للغاية، وهي تصنع ــــ مثلاً ــــ إحدى أحدث الدبابات في العالم، وتملك التكنولوجيا والموارد لصنع أي منظومة سلاحٍ لو شاءت (بما فيها الأسلحة النووية).

كوريا الشمالية معزولة ولا تشكّل خطراً على أحد، بل كان جلّ طموحها، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، مجرّد الصمود واجتياز مرحلة الحصار والأزمة والتقشّف، على أمل تغيّرٍ ما في النظام الدولي.
أمّا المقارنة مع اميركا، فهي غير جائزة أساساً. عسكرياً، الفارق بين أميركا وبين أي دولةٍ منافسة هائلٌ لا يقاس. لهواة «المساواة» بين أميركا وروسيا: الزيادة في الميزانية الدفاعية الأميركية هذه السّنة (الزيادة السنوية فحسب) هي أكبر من كامل الميزانية العسكرية الروسية (بالدولار). من زاوية أخرى: الميزانية التي طلبتها ادارة استخبارات الدفاع الأميركية لهذا العام ــــ حتى لا نتكلّم على الفروع الرئيسية للجيش ــــ توازي الميزانية العسكرية الروسية مرّةً ونصف مرة. في الحقيقة، لم تقم كوريا الشمالية بتطوير برنامجها الصاروخي حتّى الثمانينيات (وبصواريخ سكود سوفياتية قديمة)؛ فالنّظام قبل ذلك كان، من جهةٍ، مرتاحاً الى قدرته على خوض حربٍ تقليدية ضدّ الجار الجنوبي. وكان مطمئناً، من جهةٍ أخرى، الى أنّ المعسكر الشرقي لن يسمح للجيش الأميركي بضرب كوريا الشمالية أو اجتياحها من دون ردّ وتدخّل، ثم تغيّر العالم ووجدت كوريا نفسها وحيدة.

اللعبة النووية

بالمعنى العام والشامل، فإن «قواعد اللعبة» بين كوريا الشمالية وبين أميركا، منذ التسعينيات وما قبل، تشبه وضع دولٍ كايران والعراق (سابقاً) وكوبا وغيرها، تعتبرها واشنطن دولاً مارقة وتمارس معها سياسة العزل وتغيير النظام. المغزى هنا هو أنّ ثلاثية «العقوبات المفاوضات الحرب» التي تمارسها أميركا مع أعدائها «الضعفاء» لا تهدف الى استخلاص تنازلاتٍ معيّنة، أو تأهيل هذه الأنظمة والتصالح معها ودمجها في النظام العالمي. الهدف النهائي، والوحيد، لكلّ هذه السياسات هو تغيير النّظام أو خلق «ثورة مضادة» في الداخل، وأي شيء أقلّ من ذلك يعني الانتقال الى الأسلوب التالي: العقوبات تهدف لضغط النظام وكسره وإفشاله اقتصادياً، المفاوضات و«الاتفاقات» هدفها تشجيع فئات موالية للغرب داخل النظام وتغليبها وتشجيع «انقلاب ساداتي»، والحرب تأتي إن فشل كلّ ذلك. حتى حين فاوضت واشنطن بيونغيانغ، في أواسط التسعينيات، على ايقاف برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات ثمّ ارتدّت أميركا على الاتّفاق، يقول المحيطون ببيل كلينتون بأنّه لم يوقّع مع نيّة خداع الكوريين والتملّص من التنفيذ لاحقاً، بل هو وقّعه فقط لأنّه افترض، وقتذاك، بأنّ النّظام على وشك السّقوط وأنّه لن يضطرّ يوماً الى تنفيذ ما اتّفق عليه. حين اعتبرت كوريا الجنوبية أنّ النّظام يترنّح، اعتمدت سياسة «الشمس المشرقة»، ومدّت جسور التعاون مع بيونغيانغ ــــ تمهيداً لـ«انتقالٍ سلس» بعد السقوط ــــ ولكن حين تبيّن أن النظام تجاوز الأزمة وسيصمد، جاءت إدارات كورية ألغت أغلب «اتّفاقات الأخوة» السابقة، وعادت الى سياسة الحصار (منذ أشهر قليلة، أعلنت سوول انهاء تعاونها في المنطقة الصناعية المشتركة في كايسونغ وإقفال المصانع الجنوبية التي بنيت فيها مع أنّ الخسائر، بحسب تقريرٍ نشره معهد «سايس»، تقع على الجنوبيين أكثر بكثير من الشماليين).
من هذه المنظور، لم تكن الحرب «ضرورة» لأميركا لمجرّد امتلاك كوريا برنامجاً نووياً، وكان في وسع واشنطن استكمال سياسة العقوبات وانتظار سقوط النظام. الأميركيون يزعمون بأنّ كوريا، مع أنها أثبتت القدرة على تنفيذ تفجيرٍ نووي، الّا أنها تحتاج سنوات لتحويله الى سلاحٍ وتصميم رأسٍ نووي «معياري»، ثم تصغيره الى درجة تسمح بوضعه على صاروخ. حتّى لو امتلكت كوريا سلاحاً نووياً فاعلاً، فإنّ أميركا تراهن بأنها ستظلّ قادرة على ضرب بيونغيانغ إن دعت الحاجة، وتدمير برنامج الصواريخ مثلاً، من دون أن تردّ كوريا بالنووي، وتخاطر بإبادة شعبها على يد الأميركيين. حتّى لو فشل هذا الرّهان، في السيناريو الاسوأ، واستخدمت بيونغيانغ السلاح النووي، فإنها ستضرب به كوريا الجنوبية (وهذا ثمنٌ مقبول)، ولا يمكنها أن تطال أميركا. المسألة ذاتها تنطبق على الصواريخ: الصواريخ الكورية البالستية ــــ حتّى سنوات قليلة ــــ كان في وسعها، في أفضل الأحوال، ضرب القواعد الأميركية في اليابان وكوريا الجنوبية حين تقوم الحرب، وتأثيرها (لو استخدمت برؤوس تقليدية متفجرة) لن يكون هائلاً، وقد تتمكن الأنظمة الدفاعية، التي تعجّ بها سواحل اليابان، من اسقاط معظمها.
المشكلة هي حين يتطوّر المساران بشكلٍ متوازٍ، فتبدأ كوريا بانتاج أسلحة نووية وتصغيرها، فيما هي تبني صواريخ تزداد حجماً وتقنية سنة بعد سنة، حتى تصل الى الصواريخ العابرة للقارات، التي يمكن أن تضرب أي بقعةٍ على البرّ الأميركي. هنا، يصبح الرهان مختلفاً بالنسبة الى أميركا، ويضحي «عامل الخطر» غير مقبولٍ؛ ومن هنا الدافع الأميركي لايقاف هذا التقدّم قبل أن تصبح كوريا الشمالية قوّة نووية «شرعيّة»، وصواريخها مصوّبة على نيويورك وواشنطن ولوس انجلس. وهذا ليس لأنّ كوريا ستستخدم هذه التقنية، ما أن تحصل عليها، لضرب الولايات المتّحدة بل على العكس تماماً، لأنّ هذه القدرة ستعطي كوريا الشمالية نوعاً من «حصانةٍ» ضدّ الخيار العسكري الأميركي (والأميركيون يفهمون أنّ النّظام الكوري، إن لم تسقطه المجاعة والفاقة في أواخر التسعينيات، فهو لن يسقط من الداخل بسهولة أو بسبب عقوبات).
منذ سنوات، بدأت كوريا بانتاج أجيالٍ جديدة من الصواريخ، تعمل بالوقود الصلب وتختلف جذرياً عن تطويرات «سكود» التي هيمنت على الترسانة الصاروخية في الماضي؛ وهي أشبه بالصواريخ الحديثة التي تصنعها الصين وروسيا من صواريخ الستينيات. كما أنتجت، وجرّبت بنجاح، إطلاق صواريخٍ بالستية من الغواصات. وبدلاً من بضع تجارب صاروخية في السنة، أقامت كوريا العام الماضي عشرات التجارب على نماذج مختلفة. في العرض العسكري الأخير في العاصمة، في الذكرى الـ 105 لولادة كيم ايل سونغ، عرض الكوريّون (إضافة لما سبق) صواريخ تشبه الأنظمة الصينية العابرة للقارات، ويشي حجمها بأنها قادرة على الوصول الى أميركا.
الكوريون كأنهم يقولون للأميركيين «لقد وصلنا بالفعل الى القدرة التي تخيفكم». ولكن وسائل الإعلام في الغرب شككت بأصالة الأنظمة التي تمّ عرضها، باعتبار انه لا تجارب معروفة لهذه الصواريخ، وقالت إن الحاويات التي أُظهرت في العرض قد تكون فارغة. تفهم واشنطن أنّ هذه القدرات تحتاج الى سنواتٍ قليلة للـ«نضوج»، وهذا يفسّر تسارع تصعيدها في المنطقة. صواريخ الغوّاصات مثلاً، ليست خطيرة فقط لأنها قادرة على الاقتراب خفيةً من السواحل الأميركية، وضرب قلب البلد من دون أن تتمكن وسائط الدفاع الصاروخي من رصدها؛ الغواصات تعطي الكوريين قدرة «ضربة ثانية». بمعنى أنّه، حتى لو قامت واشنطن بضربة نووية خاطفة وماحقة، دمّرت خلالها القيادة الكورية بأكملها وكلّ قدراتها الصاروخية وأفنت شعبها، فإنّ الزّفرة الأخيرة لكوريا ستكون على شكل ضربة نووية، تطلقها غواصة وحيدة في المحيط، تدمّر أكبر مدينة أو مدينتين في أميركا. في هذه الحالة، يصبح الإحتراز من الحرب واجباً.

الخيارات الصعبة

كما ذكرنا في السابق، فإنّ السلاح النووي في كوريا هو تعويضٌ عن الرّدع التقليدي وليس مكمّلاً له. كما تشرح دراسة أميركية لوزارة الدفاع، فإنّ كلفة بناء قدرة نووية والحفاظ عليها في حالة كوريا هو (بعد أن تدفع ثمن البنية التحتية الأساسية) أقلّ بكثير من محاولة بناء جيشٍ تقليدي ــــ مع مدرعات وبحرية وسلاح جوّ ــــ يوازي الجيش الكوري أو الأميركي. من زاوية الحرب التقليدية، هناك درجةٌ من التشابه بين الجبهة على الحدود الكورية والجبهة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلّة. «الرّدع» الوحيد للكوريين الشماليين هو وجود عاصمة خصمهم، سوول، على مسافةٍ قريبة من خطّ الهدنة، وضمن مدى المدفعية الثقيلة والراجمات ذات العيارات الكبيرة. لهذا السّبب بنى الكوريون آلاف الكهوف والملاجىء المحصّنة، حُفرت في المرتفعات المواجهة للجبهة، بحيث تتمكّن المدافع والراجمات من القصف المتواصل وهي في أمانٍ نسبيّ ــــ حتّى ولو سيطر العدوّ على الأجواء ــــ ولا يمكن ايقافها بغير الدخول في الحرب البريّة واجتياح كوريا الشمالية (العديد من الراجمات في كوريا، بالمناسبة، هي النموذج ذاته الذي تجده في جنوب لبنان أو غزّة، ولكن هذا موضوع آخر).
يُقال أن 70% من الجيش الكوري موجودٌ في المنطقة الحدودية وعلى طول خطّ الدفاع الذي يحمي بيونغيانغ، غير أنّ «خطّة الحرب» التي يتحضّر لها الكوريون منذ الخمسينيات، تلحظ سقوط العاصمة، وانسحاب المقاتلين (ونحن هنا نتكلّم على تعبئة عامّة لأغلب الشعب، ذكوراً وإناثاً) الى الجبال الشمالية الوعرة، حيث الطّرقات المعبّدة غير موجودةٍ تقريباً وقد أعدّت شبكات هائلة من الأنفاق والمخابىء والمستودعات، تحضيراً لحرب غوارٍ تدوم فترةً طويلة. انت قد تملك قنابل خارقة للتحصينات، وقد تكون قادرة على تدمير بعض هذه المراكز، ولكن لا قوة في العالم تملك العدد الكافي من هذه القذائف المتخصصة للتعامل مع آلاف الأهداف المخبّأة والمنثورة على مساحات واسعة. على حدّ قول عسكريّ أميركي، لا يوجد بلدٌ في العالم تتخلّله الأنفاق ككوريا الشمالية، مجتمع الـ«سونغون» («الجيش أوّلاً»، وهو شعارٌ مركزي في البلد). بتعابير أخرى، الكوريون يعرفون أنّ عدوّهم متفوّق بكلّ المعايير، وخطّتهم ــــ حين تُفرض عليهم الحرب ــــ هي أن يقاتلوا بناسهم وجبالهم، وأسلحة تعود الى السبعينيات.

اين نقف؟

من المنظور العربي، من المفترض أن تكون مسألة الانحياز محسومة: كوريا الشمالية، بحجمها الصغير، دعمت قضايا عربية وساعدتنا في الحروب (الى اليوم)، وقدّمت لنا أكثر بكثير مما قدمناه لها. وهي من الدول القليلة التي ما زالت تأخذ موقفاً عنيفاً ضدّ اسرائيل وترفض أي اعترافٍ بها (كوريا الجنوبية، بالمقابل، شاركت في احتلالات العراق وافغانستان والصومال، ولكنّها أعطتنا هاتف سامسونغ!). هنا سيأتيك العربي الذي يعتقد أنّه ليبرالي (هو موالٍ للغرب ببساطة) ويخبرك عن الديكتاتورية وعن وضع الحريات والفاقة، ويدعوك لأن تضع نفسك مكان المواطن في كوريا الشمالية. ولكن هنا الخدعة الكبرى، انت لست مكان المواطن في كوريا، وحين تأخذ موقفاً تجاهه فأنت تفعل ذلك من موقعك كعربي، وليس من المفترض أن تضع نفسك في سياقه (فأنت لست في سياقه، ولا يمكنك أن تعرفه بالواسطة. ولو كان يهمّك رأيه وحاله فالطبيعي أن تسأله وتحاوره، لا أن تقرّر عنه ما يريد وما هو الأفضل له، ومتى يستحقّ النضال والصمود ومتى لا يستحقّ). إنّ تقييم النظام والتجربة الكورية، على المستوى النظري والسياسي والأخلاقي، ونقدها والتعلّم منها موضوعٌ ــــ وهذا ليس مبحثنا هنا ــــ والخيار السياسي الذي أمامنا موضوعٌ آخر تماماً.
لا متّسع هنا للكلام عن النّظام في كوريا الجنوبية وعن طبيعة نخبه، وأنّ له ايضاً وجهاً آخر لا يخلو من الفساد والعائلية والقمع. ولكنّ طبيعة المفاضلة تقنعك بأنّ المعجبين بكوريا الجنوبية، لو أن التاريخ سار بشكلٍ معاكس وجعلها فقيرةً محاصرة، فيما الشمال مليء بناطحات السحاب والأضواء ومظاهر الثراء المادي، لوقفوا في الخندق الآخر وتماهوا مع الشماليين. اليوم، تحاول حكومة بيونغيانغ أن تعاكس البروباغاندا ضدّها عبر نشر صورٍ لأحياء جديدةٍ في العاصمة، ولناطحات سحاب حديثة، ولكن المقياس والمعيار لا يجب أن يكون هنا. على الهامش: من يعتقد أن الدمقرطة الجزئية التي جرت في أواخر الثمانينيات تجعل من كوريا الجنوبية بلداً «ليبرالياً»، وأنّ الانتخابات مثّلت قطعاً مع الديكتاتورية، لا يعرف ماضي القمع والتطهير في البلد، أو أنّك ــــ الى اليوم ــــ ستعتقل في كوريا الجنوبية لو عبّرت على «تويتر» عن رأيٍ داعمٍ للشمال، أو رافضٍ لخوض حربٍ لا تنتهي من أجل الأميركيين. الرئيسة الكورية التي تركت منصبها منذ أسابيع هي ابنة الديكتاتور العسكري الأخير في كوريا، والرئيس الذي قبلها، وهو كان مدير «هيونداي»، لا يتحدّر من نخبة «المتعاملين مع الاحتلال الياباني» فحسب، بل هو نفسه مولودٌ في اليابان.
كان لديّ زميلٌ لا أعرف عنه العنصرية، ولكنه يحمل تقييماً شديد السلبية تجاه الكوريين الجنوبيين بالذات. سألته مستغرباً عن السبب، فكوريا الجنوبية في النهاية بلدٌ ناجحٌ مزدهر، حقّق تنميةً وثراءً لشعبه (ولو على حساب غيره)، وأنشأ نظاماً «ديمقراطياً» فوق ذلك. أجابني باقتضاب بما معناه «هذه أمور تذهب وتأتي، ولكن، كم يمكن للمرء أن يخضع ويمّحي أمام من احتلّه؟ أن يتخلّى عن سيادته؟ أن يسمح بغزوه؟ أن يجعل نفسه محميّة؟ هل هناك أعظم من أن تتخلّى عن دينك؟ هم، يا رجل، تخلّوا عن دينهم!» (بالفعل، فإنّ أكبر مجموعة دينية في كوريا الجنوبية اليوم، وبخاصة في المدن الكبرى، هي فئة معتنقي المسيحية).

العدد ٣١٥٦ الخميس ٢٠ نيسان ٢٠١٧
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد

ملخصات تغذية الموقع
جميع حقوق النشر محفوظة 2009 - (صنعاء نيوز)