shopify site analytics
إنتاج أحدث محطات شحن روسية الصنع للسيارات الكهربائية - عقب فضيحة الصورة وظهور الأميرة البريطانية المفقودة.. - بوتين يفوز بانتخابات الرئاسة - معارك ضارية بين فصائل الانتقالي في عدن - خارجية صنعاء تستهجن إدانة مجلس الأمن الدولي للعمليات اليمنية - العبودي يكتب: اِستثمار السكن ليس لفقراء العراق - منيغ يكتب: لقضايا بقايا في موريتانيا (2 من 5) - القدوة يكتب: النظام الدولي يفقد مصداقيته أمام دموية حرب غزة - نظرة أولية للدراما اليمنية والعربية في رمضان - الصناعة تدشن حملة للرقابة على الأسعار -
ابحث عن:



صنعاء نيوز - المصدر: صنعاء نيوز

الإثنين, 23-نوفمبر-2020
صنعاء نيوز -
آمنة النصيري بين الرسم والحرف والمعنى..

ثمة فرق بين أن ترسم الحياة بريشة امرأة أو بريشة رجل!..
الأنثى هي سيدة الألوان وروحها وألقاها المتوهجة على الدوام، في ألف وجه ووجه من الجمال الفتان، وحينما تتقد الألوان في مجمرة الحكمة، حيث تسكن العنقاء، وتطلق جناحيها للريح من قلب السواد والرماد؛ فاعلم أن من أعاد تصميم وتشكل الظل والضوء هي (آمنة النصيري)..
أنثى الألوان التي فتحت كوة في جدار النفق، ليتسرب منه خيوط الحلم والأمل والبهجة والبشارة، المنبثقة من قلب الظلام المحاط بحصارات الخوف ودوائره الشائكة..
هكذا وصفت الفنانة التشكيلية اليمنية (آمنة النصيري)؛ وصفت معرضها الفني الذي نظمته في خريف صنعاء عام ٢٠١٠م في المركز الثقافي اليمني الفرنسي، إذ كتبت مايلي: " العالم يتداعى حين يحاصره الخوف، الكائن يموت حين يختبيء في داخله، ثمة مأساة تغلف كينونة الفرد القابع في حضور عالم متبدل بسخاء، محفوفاً بشروط السوق، وآليات القوة، ووسائل بارعة في التدمير،
ثمة إنسان يحاصره عنف الخارج، وفكر العنف، وثبات النظريات والآلات
الكابوسية المنذرة بحدوث الكارثة الكونية، ثمة إنسان يحيا في زمن مربك يتسم باللاعقلانية، تتشظى فيه الروح
وتتلاشى فيه القدرة، يستبدل الحقائق بالأوهام، والإرادة بالعجز،.ثمة إنسان يائس، يغترف من مخزون الذاكرة الموجوعة، يعيش في سجن الأفكار، ينكفيء في ذات الحيز، ويكف عن الدهشة، يخنق خطواته، ويصادر حريته، ويبرع في تدمير الذات، ثمة إنسان يتناسل معنى الفزع من قاموسه؛ الخوف من التحليق العالي، ومن الحركة ومن أعماق الماء، ومن الفراغ الضيق، ومن الأمكنة الموصدة الأبواب، والخوف من المبهم، ومن الغامض، ومن المظلم، ومن الأشباح، والخوف من النأي الفقد، ومن الموت الدال على الزمن البشري المحدود،
والخوف ممن لا نحب وعلى من أحببنا،
ومن الآخر، ومن المجهول "بتلك الكلمات
القليلة" رسمت الفنانة آمنة المشهد العام،
وهو ما زال في رحم الغيب، إنه التوجس الذي يسبق الخوف والفزع.
إذ لم تمضِ أشهر قليلة، حتى وضعت الحبلى مولودها، الذي طالما وقد حلمته ربيعا زاهرا بالخير والحب والأمن والأمان؛ فإذا به ينداح سيل منهمر من العنف والحرب والخراب، إذ حلمت صنعاء بربيع تتفتح فيه كل الألوان؛ فإذا بالأحمر يتلطخ في كل الجدران، فيا للخيبة والحسرة والخذلان، وحينما نطل من الشرفة العاشرة لميلاد حصارات آمنة، ندرك معنى ذلك القلق الذي كان يسكن قلب الفيلسوفة، التي تنظر إلى ما هو أبعد من لحظتها العابرة، فاهو خوف الآمنة يطل من وراء كل نافذة، وباب في اليمن السعيد بجهله وظلامه..
حقا ما قاله نيتشه: "الموهبة تصيب الهدف الذي لا يستطيع أحد إصابته، بينما تصيب العبقرية الهدف الذي لا يستطيع أحد رؤيته".
والفنانة الفيلسوفة (آمنة النصيري) هي التجلي الأبرز للموهبة الذكية،
_فمن أي الأبواب ينفتح المشهد على هذه التجربة الإبداعية المثيرة للدهشة والإعجاب؟
_ومن أي الأسوار يمكننا الإطلال على كون آمنة والتجول في رحابه؟
_وكيف يمكننا قراءة تلك اللوحات، التي تخفي أكثر مما تظهر، وتضمر أعمق مما تجهر؟
في عوالم الفنانة فيلسوفة الفن والجمال الدكتورة (آمنة النصيري) سوف تكون رحلتنا الفكرية، وهي الرحلة التي كنت قد شرعت السير في دروبها منذ زمن مضى، بعد أن أهدتني نسخة من بواكير أعمالها، حينما التقيتها في المؤتمر الأول لعلماء الاجتماع العرب بصنعاء عام ٢٠٠٦م؛ فحالت الحرب والمحنة دونها.
ربما باتت الرياح مؤاتية اليوم لاستئناف الرحيل على أجنحة الكلمات والمعاني، في كون الألوان الباذخة بالجمال والدهشة، المتاح الوحيد في زمن الغربة، والاغتراب والمحنة والضيق الكورونية، والحجر الصحي ورُب ضارة نافعة!
عرفتها في عدن قبل أن التقيها في صنعاء، عبر معرفتي بأخيها الزميل الراحل الدكتور/أحمد نصيري كان عضواً في هيئة التدريس بقسم الفلسفة بكلية التربية، من أجمل الأشخاص الذين عرفتهم -رحمة الله عليه- كان يفتخر بالدكتور آمنة أخته غير الشقيقة، هذا فضلا عن كتاباتها النقدية في الصحف اليمنية، والكتابة عنها وعن معارضها فأنا، من أشد المتابعين للصفحات الثقافية في الصحافة، وفي المؤتمر الأول لعلماء الاجتماع العرب عام ٢٠٠٦م، التقينا في قاعة المؤتمرات بجامعة صنعاء.
شدتني ورقتها عن الفن والعنف، إذا لم تخني الذاكرة، أُعجبت بطريقة عرضها المنهجية للفكرة، وتداخلت معها ببعض الأسئلة والملاحظات، وفي نهاية الجلسة أهداني مطبوعة ملونة تضمن أعمالها التشكيلية، حزمة الأوراق تلك كانت هي المغنم الأجمل الذي عدت به من صنعاء، وفي الطريق الطويل من صنعاء إلى عدن، تصفحت الكتالوج الذي يضم خلاصة تجربتها الفنية..
ومع أنني قد استنتجت مادة فلسفة الجمال في سنة رابعة بكالوريوس على يد أستاذ ألماني، تركت محاضرته أثرا في نفسي، ومنذ ذلك الحين أحببت فلسفة الفن والجمال، ولكنني لم أجرب كيف يمكن تطبيقها في الحياة الواقعية..
ربما كان للفنانة آمنه الفضل في تحفيز رغبتي الثاوية في نفسي لقراءة اللوحات التشكلية وفهم دلالاتها الجمالية والاجتماعية.
وكانت المحطة الثالثة التي جعلتني اهتم بفلسفة الجمال، هي بفضل الدكتور الراحل مطلق مسعد الدغفلي -رحمة الله عليه- إذ طلب مني أن أقوم بتغطية مادة فلسفة الجمال، بدلًا عنها بسبب وعكة صحية حالت دون قدرته عن الحضور.. كنت حينها رئيسا للقسم؛ فاغتنمت الفرصة والسلطة للتعليم والتعلم، إذ عرفت تاريخ فلسفة الجمال ومدارسها من أفلاطون حتى كروتشة، مرورًا بكانط في نقد ملكة الحكم،تلك، وتاك هي ما شجعني للكتابة عن الفنانة آمنة، أهم فنانة تشكيلة في الجزيرة العربية من النوع الاجتماعي، وأهميتها تنبع من كونها جاءت من بيئية تقليدية ذكورية تهيمن فيها الثقافة الشفاهية السمعية، ثقافة الصوت لا ثقافة البصر، لا تعرف الفن التشكيلي ولا فلسفة الجمال، بيد أن آمنة التي أعادة رسم الحياة في اليمن بموهبتها المرهفة الحس، وبما تمتلكه من ذكاء عاطفي مثقف في كنف عائلة تحب الفن والرسم والشعر والأدب، إذ تروي سيرتها الذاتية بأن والدتها قد كانت حريصة على تعليمها، وتنمية موهبتها الفنية، بل اضطرت إلى السفر من رداع وسط اليمن صنعاء شمالا لتدريس آمنة وأخوانها..
وفي صنعاء وجدت التلميذة الموهوبة من يأخذ بيدها من الفنانين التشكيليين، وأولهم الفنان الكبير (هشام علي) و(عبدالجبار نعمان) و(فؤاد الفتيح) وآخرون.
من وسط هذه البيئة الذكورية المتاحة، شقت الفنانة آمنة تجربتها المتميزة في عالم الفن والتشكيل، وجعلت من بيئة مجتمعها القاسية والقبيحة أحيانا لوحات باذخة السحر والجمال، إذ مزجت في تشكيل لوحاتها بين البصر والبصيرة، بين الواقع والتجريد، بين التعبير والرمز، بين الموضوعية الواقعية، والذاتية الإبداعية الرمزية، وعلى مدى خمسة وثلاثين عاما تخللتها سنوات الدراسة الأكاديمية في روسيا العظيمة، إذ حصلت على الماجستير في النقد الفني ونظريات الفن، من أكاديمية الدولة للفنون (سوريكوف) موسكـو 1994م، وعلى الدكتورة من جامعة الصداقة بين الشعوب في فلسفة الجمال موسكــو 2001م، وهي بذلك جمعت بين الموهبة الإبداعية، والتأهيل الأكاديمي العالي في مجال فلسفة الفن والجمال، وهذا هو ما يميز تجربتها الإبداعية عن غيرها من التشكيليين العرب، وحينما تتزاوج الموهبة مع المعرفة يكون الإبداع على أصوله.. فالفلسفة كان لها الدور الأهم في تفتح الرؤية التشكيلة إلى ما هو أبعد من الحالة الباروكية والتعبيرية والانطباعية والتأثيرية، التي هيمنت على أعمال معظم التشكيليين العرب، نظرت آمنة إلى عالمها بعيون الفنان الفيلسوف الذي يرى ما هو أبعد مما يعيشه ويراها يوميًا، وتلك هي حالة الاغتراب عن السائد والمألوف والمشاع والمبتذل، ففي مجموعتها الفنية يمكن رؤية الحياة بكل زخمها الظاهر والباطن، رسمت أوجه حياة الإنسان اليمني بمختلف أوجهها؛ رسمت الأمكنة ومنحتها معنى ورسمت الأرض والسماء، ومنحتها معنى رسمت الأطفال والنساء والأزياء والحيوانات والطيور والغيوم والمطر والبحر والبر والجبل والحزن والفرح والأمل والتوجس والخوف والفزع والحصار والكبت والحرمان والحرية والعدالة وكل شيء يتصل بالحياة الاجتماعية للناس، كما هي كائنة وكما ينبغي أن تكون، رسمت لوحات كثيرة جدا واشتركت بمعارض دولية منذ كانت تلميذة عام ١٩٨٦م في بغداد، ولما كان التصنيف من أوليات الفن التشكيلي، فقد صنفت أعمالها في مجموعات فنية، ومُنحت كل مجموعة اسمها من ذلك، مجموعة التحليق في السماء التي تضمن كل اللوحات التي ترمز للطيران والتحليق والانطلاق، استلهاما لمعنى الحرية تلك الكلمة المكتوبة على أجنحة العواصف؛ إنها الكلمة التي ينثر اللفظ بها كنانة شاملة من الغضب المقدس، وتلهب النفوس بالآمال والتحفز، إنها الكلمة التي ترمز إلى الطيور المحلقة في فضاءات،
وتكتب على دفاتر التلاميذ، وعلى مقاعد الطلبة والطالبات وفي الكراسات وعلى جذوع الأشجار وعلى الرمل وعلى الثلج وفي جدران السجون، وفي لوحات الفنانين، وفوق الأضرحة، وفي عيون المقهورين، وتوشم فوق أجساد الشباب وفي عقولهم، تلك الفكرة المجردة التي تتقد في ضمائر العارفين للمعاني السامية هي التي جعلت فنانة الجزيرة تمنحها الأشكال والألوان التي تستحقها، فحينما تنظر إلى مجموعة التحليق في سماء الروح، وتتمعن في حركة الطيران واتجاه التحليق ورفرفة الأجنحة وألوانها، يمكن أن تفهم رسالة آمنة، وذلك هو معنى الانزياح والتسامي كما عبر سيجموند فرويد، فحينما لا يجد المرء في الواقع ما يشبع الحياة الحاضرة، يضطر أخيرا إلى الحلم والأمل، تلك هي الأغنية التي تغرد بها عصافير آمنة في بيئتها الخانقة، وفي مجموعة الرؤية من الداخل التي تضمن لوحات النساء اليمنيات المخفيات بالأغطية الصنعانية أو الأغطية البيضاء التي تشبه الكفن، حاولت الفيلسوفة آمنه التعبير بالنور والظل والفراغ والألوان عما تعنيه المرأة اليمنية من تمييز وتهميش واستبعاد وقمع اجماعي وثقافي؛ فالمرأة هنا في ثقافة المجتمع البطريركي لا زال عورة؛ وجهها وصوتها وجسدها وعقلها ومشاعرها، يجب أن تختفي عن الأنظار
إذ يبدأ التمييز العنيف ضد المرأة منذ لحظة الإخصاب الأولى في رحم الأم، حيث تُرفع الأيدي بالدعاء لله بأن يكون الجنين ذكراً لا أنثى، وتظل الأم الحامل في حالة قلق وتوتر طوال مدة حملها بشأن هذا الكائن الذي بدأ يتحرك في رحمها! خشية من غضب الزوج وذويه، ولا يزول القلق إلا في لحظة الولادة، حيث يبلغ التمييز أوجه، بانشراح الأسارير وبإطلاق الزغاريد بالقادم الجديد إذا كان ذكرا، بينما تعبس الوجه وتذرف الدموع ويعم الحزن والعبوس والغضب إذا كان المولد الجديد أنثى، وبهذا تواجه الأنثى منذ لحظة ميلادها الأولى أو صدمة عنيفة في حياتها، صدمة تتمثل برفض المجتمع لوجودها، وأنها كائن غير مرحبا به بالحياة، ولابد من وأدها بالمهد، كما كان يفعل العرب قبل الإسلام، غير أن العقلية الذكورية المهيمنة، ابتكرت طرق شتى لممارسة (الوأد الرمز) بعد أن تم تحريم (الوأد المادي)، إذ يتم وأد الجنين الأنثى بعدم الترحيب بميلادها، وبإخفاء خبر مجيئها، بعكس المولد الذكر الذي يعد ميلاده في العائلة العربية موسم احتفال مستمر منذ الصرخة الأول، والختام
والتهاني والتبريكات والهدايا والزيارات التي تستمر مدة أربعين يوما وأكثر!
منذ ذلك الحين يتم وأد جنين المرأة بالمزيد من الإخفاء عبر التمييز، باختيار الملابس والألعاب والإهمال والقسوة في التربية والتحقير والتخجيل من جميع أفراد العائلة، ومن ثم الحرمان من اللعب الحر والخروج إلى والكلام، والحرمان من التعليم وإجبار الفتيات على البقاء في البيت، حتى يأتي العريس الذي يتم تدبير أمره برغبة أهلها دون علمها وبغير إرادتها، قبل بلوغها سن النضج، وقد شهدت اليمن حالات لا تحصى من زواج الصغيرات، وبعضهن يتم ربطهن منذ الولادة فيما يعرف بزواج المبادلة، هذا التمييز يصاحبه دائما حالة من العنف والقسوة في التعامل مع الأنثى بخشونة، المعاملة بالضرب والتوبيخ والتحقير والاستعباد من قبل الأمهات والأباء والأخوان الذكور، ومن قِبل الأزواج والمجتمع كله، وتتعدد أنماط العنف والتمييز ضد المرأة في مجتمعنا، في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والأخلاقية... إلخ، بحرمانهن من حرية اختيار أبسط خصوصيات حياتهن، الكلام والزي واللعب والألعاب، والدراسة والزواج والعمل والمشاركة في الشأن العام والسفر والسياحة، وما يصاحب ذلك من أنماط العنف المادي والرمزي، عنف جنسي الخطف والاتجار والاغتصاب والقتل خارج القانون، بإسم الشرف والعار، والعنف الاقتصادي بجعلهن جواري يخضعن لشهوات الذكور، وخدمتهم في المنزل وخارجه، والعنف السياسي، بحرمانهن من حقوق المواطنة والانتخاب وتقلد المسؤوليات القيادية، والعنف القانوني والأخلاقي، بوجود تشريعات تنقص من حقوقهن وكرامتهن، والعنف الأخلاقي والجمالي، يتمثل في النظرة إلى المرأة بوصفها موضوع رغبة ومتعة فقط، حيثما كانت أو وُجدت، في البيت أو الشارع أو المدرسة أو الجامعة أو العمل، أو السوبر ماركت، إذ يتم التحرش بهن ومطاردتهن بالعيون والأيدي والأرقام والسيارات، والاختطاف والاغتصاب..إلخ. في لوحات آمنة النصيري يمكنك أن تقرأ المزيد من أشكال القمع والتمييز ضد النساء، لكنها لم تستسلم لهذا الترسيم الظلام للفصل بين الجنسين، بل رسمت مجموعة أخرى للكائن الذي لا تحتمل خفته بحسب ميلاد كونديرا اسمها سيدات العالم، لوحات زاهية الألوان وكأنما تصرخ في وجه اللونين الأسود والأبيض قائلاً لهما:
"الإنسان ذكرا كان أو أنثى هو كائن يستحق الحرية؛ حرية العقل والضمير والتعبير والعمل والزي وحينما تسود الحرية، يزهر الكائن بألف وجه ووجه من الجمال ألفتان"
الحياة سيموفينية متعددة الألوان والألحان والمعاني، أرادت آمنة أن تقول في رؤية من الداخل أن النساء مثل الرجال تماما، لسن مجرد أجساد ووجوه وأدوات حمل وطباخة، بل لهن مشاعر وأفكار وأحاسيس إنسانية، ربما أكثر من إنسانية الرجال المصطنعة.
وهكذا جاءت مجموعة حصارات التي تضم مجموعة من الصور الفوتوغراف مع المجسمات بمثابة وضع النقاط على الحروف، إذ كانت صادمة وغير مألوفة للمتلقي اليمني بما تحتويه من رسائل ظاهرة وخفية، عبرت عن توجس الفنانة بالخوف القادم كما أشرنا أنفًا، وفي مجموعة كائنات التي تضم لوحات الكائنات الأسطورية، حاولت الفنانة أن توصل الرسالة بمضمون صوفي وهي بذاك ذكرتني بمسار الفلاسفة العرب، الذين حاولوا البحث عن هامش للتعبير عن مكنونات صدورهم ومنهم (أبو حامد الغزالي) صاحب المنقذ من الضلال. فالتصوف هو إشباع لذلك الجزء الإنساني المتعطش دائماً للإشباع الروحي، إذ إن في الوجود جانباً باطناً لا مرئياً خفياً، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية العقلانية، وأن الإنسان كائن ناقص الوجود والمعرفة، وإن الطرق إليه خاصة وشخصية وفريدة وحميمة، وهذا ما يفسر تماثل وتناغم جميع الاتجاهات التي تحاول الوصول إليه واستشرافه، فالتجارب الكبرى في معرفة ذلك الجانب الخفي من الوجود تتلاقى بشكل أو بآخر فيما وراء اللغات، وفيما وراء العصور وفيما وراء الثقافات.
أو كما كتب الدكتور (عبدالسلام الربيدي) "التصوف نزوع إلى التحرر والانعتاق، وميل مُلحّ إلى تجاوز حدود الضروري اليومي المادي، هو تجربة تختزن إحساس الإنسان بوجود المستور، الذي يكاد يغطي الوجود كله رغم انكشافات الوجود الظاهرة"..
وهكذا هو الفن يبدأ لا من اللحم والدم وليس من العقل والوجدان فقط، بل من المكان والزمان من الفضاءات الحميمة التي تحتضن الكائن؛ المنزل، الشارع، الحي، البلدة، المدينة، الأرض، السماء، المناخ الليالي الأيام، النجوم، الغيوم، المطر، الشمس، القمر، الشجر، البحر، الموج ، النهر، الجداول، الرمال، الجبال، الوديان، الحيوان، الناس، الوجوه الرجال، النساء، الأطفال، الأنوار، الظلال، الأشكال والألوان، الغناء، الرقص، النحت، الرسم، الأزياء، الألعاب، العصافير، الأعشاش، الأفراح، الأتراح، الألآم والآمال والأحلام. وكل تلك الأشياء الصغيرة الحميمة المؤطرة في السياق الحي الفوري المباشر، لكينونة الكائن التي يعيشها متدفقة لحظة بلحظة من حياته، تلك الاشياء الصغيرة بتفاصيلها الحميمة التي تظل عصية عن النسيان، هي التي يستلهمها الإنسان، المفكر، الفنان، ويعيد صيغتها إبداعيًا ( فكرة، أغنية أو قصيدة أو قصة أو رواية أو لوحة تشكيلة فنية جميلة أو سيرة ذاتية أو رؤية فلسفية أو هرم أو برج أو عمارة.. إلخ)
إنها أغنية الأرض المنتزعة من أرضها رمزيًا بما تحمله من رسالة جمالية ذات دلالات ومعاني جمالية وسيكولوجية وميتافيزيقية واجتماعية ثقافية إنسانية سامية تهذب الأذواق والنفوس، والفنان لا يأتي بالمعجزات؛ بل هو ابن بيئته وربيب زمانه، وتمنحه موهبته المرهفة القدرة على إعادة صياغة الحياة في قالب فني يسر النظر، ويطرب السمع، ويبعث الشعور بالمتعة والفرح والجمال.
إن تجربة( آمنة النصيري) تعد بكل المقاييس من التجارب الإبداعية العربية، التي ما زلنا نجهل عوالمها وتحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة والتقييم الذي يليق بالتجربة وصاحبتها.
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد

ملخصات تغذية الموقع
جميع حقوق النشر محفوظة 2009 - (صنعاء نيوز)