صنعاءنيوز / إيهاب مقبل -



تتجنب الجيوش في الحروب الحديثة مهاجمة المدنيين عمدًا. تحدث الإصابات والوفيات بين المدنيين عندما يعلق المدنيون بتبادل إطلاق النار بين قوتين متحاربتين، أو يصابون بقنبلة خاطئة، أو يتم استهدافهم بسبب معلومات استخباراتية خاطئة، وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى، يصبح المدنيون ضحايا عن طريق الخطأ، وليس عن قصد.

ومع ذلك، ليس هذا بالضبط ما يحدث في الحرب الأمريكية الإسرائيلية على قطاع غزة، كما إنه ليس هذا بالضبط ما حدث في الحروب الأمريكية على الصومال وأفغانستان والعراق وسوريا!

يستهدف الجيش الإسرائيلي المدعوم عسكريًا وإقتصاديًا وتكنولوجيًا من أمريكا الشمالية المدنيين الفلسطينيين عمدًا في قطاع غزة، وبسبق الإصرار والترصد، فمن ناحية يريد تقليل الاحتياجات اللوجستية، ومن ناحية أخرى يريد تخويف السكان المحليين واخضاعهم وإرهابهم ومعاقبتهم لدفعهم للتمرد ضد المجاهدين الفلسطينيين أو الرحيل خارج قطاع غزة. ومن أمثلة ذلك، مجزرة الطحين عند دوار النابلسي غرب مدينة غزة في 29 فبراير شباط، ومجزرتي الطحين في دوار الكويت شمال مدينة غزة في 25 يناير كانون الثاني و14 مارس آذار الجاري 2024، في استهداف علني وبتصوير كاميرات طائراته أحيانًا للمرة الـ20 لمنتظري المساعدات الغذائية.

رغم "أعداد القتلى" الكبيرة بهذه المجازر التي نفذت على التوالي في القطاع، إلا أن الإستجابة لهذه الأخبار كانت ضعيفة، بل شبه معدومة في بعض الدول العربية والإسلامية، بإستثناء إستجابة أهل اليمن وقواتهم المسلحة. يدفع هذا أيضًا إلى الإفتراض أن الجيش الإسرائيلي يتعمد استهداف مجموعات كبيرة من المدنيين الفلسطينيين من أجل "التخدير النفسي" للشعوب أو الجمهور.

تأمل، يمكن أن يكون لموت فلسطيني واحد، حتى وإن كان شخصًا غريبًا، تأثير قوي على مشاعرنا وعواطفنا، مثال على ذلك مقتل عدد من أفراد أسرة مراسل قناة الجزيرة في غزة وائل الدحدوح، فقدْ كانت الصورة تتكلم وتروي بطريقة شخصية وحيوية أكثر مما لو تم وصف الحدث بشكل أكثر تجريدًا أو شمولية. لكن في المقابل، عند ارتفاع أرقام الضحايا وتزداد المصائب والمأسي، يمكن أن يزداد لدينا مستوى اللامبالاة بشكل مفاجىء إلى درجة من الخدر النفسي، أو كما قال جوزيف ستالين: "موت إنسان واحد هو مأساة كبرى، وموت الملايين مجرد إحصائيات"!

وقدْ وجد علماء النفس أن الناس أو الجمهور يختبرون رد فعل عاطفي أكبر إزاء موت شخص واحد مقارنةً بموت الكثيرين، حتى ولو كانت الظروف متشابهة أو متطابقة. بمعنى آخر، كلما ارتفع عدد الضحايا والقتلى والجرحى، كلما قل التعاطف الذي يشعر به الناس إزاء مصيبة ما، إذ إن قدرتنا على التعاطف مع الحالات الفردية أكبر بكثير من قدرتنا على التعاطف مع الحالات المأساوية الجماعية، وذلك لان مشاعرنا لا تتعاظم مع عدد الضحايا بل مع قصصهم ورواياتهم وعوائلهم المفجوعة.

وفي هذا السياق، يقول عالم النفس، بول سلوفيك، لشبكة بي بي سي البريطانية: "إن الشعور الغريزي السريع والبديهي يشكل معجزة في نواح كثيرة، ولكن له بعض العيوب". وتابع سلوفيك الذي درس ظاهرة التخدير النفسي لعقود: "لا يتم التعامل مع الأرقام من حيث الحجم بشكل جيد للغاية. إذا كنا نتحدث عن الأرواح، فإن حياة واحدة مهمة وقيمة للغاية، وسنفعل أي شيء لحماية تلك الحياة وإنقاذ هذا الشخص. ولكن مع زيادة الأعداد، لا تزداد مشاعرنا بشكل متناسب أيضًا".

في الحقيقة، تشير أبحاث سلوفيك إلى أنه مع تزايد الأرقام الإحصائية المرتبطة بمأساة أكبر وأكبر، فإننا نصبح أقل حساسية وشعورًا، ونستجيب بشكل أقل للأخبار المفجعة والمحزنة، وهذا بدوره يجعلنا أقل عرضة لاتخاذ الاجراء اللازم لوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، سواء بإلضغط لفتح معبر رفح وإدخال المساعدات الإنسانية أو الرد العسكري المناسب ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية على أقل تقدير كما فعل اليمن وقواته المسلحة.

كيف نتغلب على التخدير النفسي في الحرب الأمريكية الإسرائيلية على الفلسطينيين؟

1. التركيز على إضفاء الطابع الشخصي والإنساني على الأرقام من خلال الأدلة القصصية الفردية والتجارب الشخصية بدلًا من الإحصائيات، وذلك لان تسليط الضوء على الجانب الإنساني للحرب يمكن أن يجعلها أكثر ارتباطًا وتأثيرًا عاطفيًا. فحين تجري الصحف والقنوات الأمريكية والإسرائيلية مقابلات شخصية تنتحب مع عوائل جنود الإحتلال اليهودي الذين "قتلوا في قطاع غزة"، فإنها تثير قدرًا من المشاعر أعظم مما تثيره نفس الصحف عندما تذكر بشكل عابر أن الآلاف من الأطفال الفلسطينيين قدْ "ماتوا بسبب حملة الانتقام الإسرائيلية".

2. تعزيز التعاطف من خلال تشجيع الناس على وضع أنفسهم في مكان المتأثرين بشكل مباشر، وهو وسيلة للتغلب على التخدير النفسي. "لقدْ بقينا في صمت، وتشابكت أيدينا"، كما روج الإعلام الأمريكي والإسرائيلي لميلت بن حاييم على أنها إحدى الناجيات من هجوم الفصائل الفلسطينية على المستوطنات اليهودية بغلاف قطاع غزة في السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023، وأنها عاشت في الأدغال لمدة ست ساعات لإنقاذ حياتها، فقدْ كان هدفهم الاستماع إلى تجربة شخصية درامية لإضفاء طابع إنساني على الموقف، مما يجعله أكثر ارتباطًا بالعواطف وأقل تجريدًا.

3. تعزيز دور المبادرات التعليمية بمختلف صورها ومواقعها، فهي توفر فهمًا أعمق للجوانب الدينية والتاريخية والسياسية والاجتماعية للقضية الفلسطينية، وتساعد في التغلب على التخدير النفسي.

4. الحد من التعرض للأخبار المحزنة، فعلى الرغم من أهمية البقاء على اطلاع بما يجري في قطاع غزة، إلا أن التعرض المستمر للأخبار المؤلمة قدْ يساهم بدوره في التخدير النفسي. ولذلك من الضروري تحقيق التوازن، وأخذ فترات راحة من المعلومات الهائلة.

5. تعزيز الطرق الإبداعية لرواية القصص من خلال البيانات والأبحاث وجلب الناس إلى الروايات الفلسطينية وربطهم بما يحدث لإنشاء قصص مرئية واقعية عما يحدث في فلسطين المحتلة عامة وقطاع غزة خاصة. ولعل من المهم مراجعة "برنامج الملف" لفيصل الياسري، والذي تمكن بطرقه الإبداعية من تجسيد قصص المجازر الأمريكية و"غربان الشر الأمريكية" في حرب العراق العام 1991.

المصادر:
ما الذي يجعل الناس يتوقفون عن الاهتمام؟، بي بي سي، 2020
https://www.bbc.com/future/article/20200630-what-makes-people-stop-caring

ميلت بن حاييم
https://www.instagram.com/reel/CyifiVRNm_v/?utm_source=ig_embed&ig_rid=14d15a6b-b780-4ffe-85f9-77bc14efe391

الأهل والأصدقاء ينعون الجندي الإسرائيلي الذي قُتل في غزة، أخبار إذاعة صوت أمريكا، 2023
https://www.youtube.com/watch?v=j8cDtDCbSGc

عائلات الإسرائيليين الذين قتلوا في الحرب تجد أملًا جديدًا من خلال استخراج الحيوانات المنوية، سي أن أن 2023
https://edition.cnn.com/2023/12/01/middleeast/israeli-families-sperm-retrieval-intl-cmd/index.html

برنامج الملف - قصف ملجا العامرية (الحلقة السادسة والعشرين) فبراير شباط 1991
https://www.youtube.com/watch?v=c09isBc3CBw

انتهى