صنعاء نيوز - حسن عبد الوارث‎

الإثنين, 25-سبتمبر-2017
صنعاء نيوز/ حسن عبد الوارث‎ -
توافد الجيران ، فالأقارب ، فالأصدقاء والزملاء ، على الدار . كان الحزن يُخيّم على وجوههم ، لمحتُ صدقاً حقاً في بعضه وزيفاً محضاً في معظمه . دعوتُ الله ألاَّ يجرؤ أحدهم على الادعاء بأنه أقرضني مالاً قبل وفاتي بأيام أو أسابيع ، لأن الجميع سيُصدّقه حينها ، فقد كنتُ في أيامي الأخيرة صريع الحُرفة على نحوٍ يثير الشفقة . أستجاب الله لدعوتي .
سرعان ما بدأتْ مراسيم ترحيلي من الدار الى النار .. لا أدري ما السرّ في حماستهم المفرطة ! ، فقد بدا لي الجميع لا يطيق صبراً على بقائه في جواري ، ولو لهنيهةٍ أخرى .. ربما لأن " اكرام الميت دفنه " كما ظلوا يُردّدون بين لحظةٍ وأخرى ، وهي الجملة التي كان الجميع متفقاً عليها كحال الجملة الأخرى : الله يرحمه .. غير أن أحداً لم يُضِفْ اليها : ويسكنه فسيح جناته .. وكأنَّهم يدركون أنني ذاهب في الطريق الأخرى .
لو كنت أدري بموعد موتي لأتّفقت مع السيد عبدالكريم الياجوري على تحنيطي ، ولأوصيت بعرضي بعدها في تابوت زجاجي ، على غرار لينين في الساحة الحمراء .. لكن أحداً لن يضمن لي الوفاء بتحقيق الأمنية وتنفيذ الوصية .
سارت الجنازة بفتور شديد ، وبحضور عدد قليل جداً من معارفي وعدد أقل من السابلة الذين أعتادوا السير في كل جنازة عابرة ، ولو كانت جنازة كلب .
عند وصولي - أو وصولهم - الى المقبرة ، كان القبر جاهزاً لاحتضان جثماني ، لكنه كان ضيقاً جداً عليَّ ، كما هو حال كل شيء في حياتي ، وبالرغم من ذلك ، أصرَّ الجميع على حشري قسراً في بطن القبر الذي حُفر في مكانٍ قصي من المقبرة المكتظة بالجثامين التي ظل بعضها يُردّد : رحم الله النبَّاش الأول !
أنتهى الأمر سريعاً .. وكان الجميع متعجّلاً جداً لمغادرة المقبرة .
أهالوا عليَّ كمية كبيرة من التراب والحجارة والحصى ، وكمية قليلة من الماء والدعاء .. ثم راح كهل توحي ملامحه بالبلاهة والطيبة معاً يُسوّي جنبات القبر ، تمهيداً لسدّه تماماً بطبقة من الأسمنت الذي قضيت معظم عمري عاجزاً عن توفيره لبناء بيت ، من دون جدوى . قلت لنفسي : من لم يسكن بالأسمنت ، يُدفن به .
ها أنا وحدي والظلام . أتمدّد دون حراك . لا وقت للوقت هنا ولا لغة للمكان . بيني وأقرب جار ، جدار من ورائه جدار . تلاشت المسافات وضاقت المساحات وأستوى العدم بين رأسي والقدم . لا فائدة من التفكير في الأمر . اذن ، فلأسترح ، وليقلق العالم فوقي .. فأخيراً ، لقيت السبيل الوحيد الى الخروج من دوامة القلق الذي أوصلني الى آخر النفق .

* مُقتطَف من قصة طويلة مخطوطة ، بالعنوان ذاته - صنعاء - 2008
تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 29-أبريل-2024 الساعة: 02:55 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-55385.htm