صنعاء نيوز - المصدر: صنعاء نيوز

الخميس, 05-أكتوبر-2017
صنعاء نيوز -
عند سياج يحيط مزرعته المدهشة علق أحدهم لافتة تقول: "هذه الأرض وما حوت هدية لمن اكتفى بما لديه ورضي بما قسم الله له." وعند اللافتة توقفت سيارة فارهة، ونزل رجل أعمال تفوح من ثيابه رائحة عطر باريسي. وبعد نصف ساعة من الهرولة حول سياج المزرعة، قال الرجل في نفسه: "هذه الأرض لي، فقد وهبني الرزاق من النعم ما لا يحصى، وآتاني من فضله العظيم. عوفيت من الأمراض والأسقام، ورزقت زوجة طيبة وأبناء صالحين. فهل على الأرض من هو أحق بالرضا والقناعة مني؟"
تقدم الرجل بخطى ثابتة نحو باب خشبي يتصدر المشهد، وطرق طرقتين. لم تمر ثوان معدودات حتى صر الباب وخرج من فتحته الضيقة وجه معروق. نظر الفلاح في وجه ضيفه المنتظر، ونظر في عينيه مليا قبل أن يسأله: "ألك حاجة؟" في اعتداد قال الرجل: "لا حاجة لي بمخلوق، فقد اكتفيت بالله ورضيت." ثم ابتلع ريقه قبل أن يكمل: "أنت صاحب هذه الحديقة إذن؟" فرد الرجل بعد أن خرج إلى العراء في ثياب بالية: "كانت لي قبل أن أقرر التخلي عنها لمن رضي بما قسم الله له. أنا اليوم مجرد حارس ينتظر."
نفض الرجل غبارا تجمع فوق كتفيه وفي زهو قال: "أعتقد أنك قد وجدت ضالتك أيها الرجل الطيب، فقد أوتيت من الخير ما تنوء بمفاتحه العصبة أولو القوة. وطويت الأرض شرقا وغربا، سماء وأرضا. لم أترك متعة إلا وجربتها، ولا تاقت نفسي لشيء حتى نهلت منه وارتويت. ولو خرجت من الدنيا الآن، لخرجت راضيا مرضيا. لا أجد في نفسي حاجة ولا مطلب لي عند أحد، ولا أريد من هذه الدنيا شيئا أبدا. أشعر بالرضا يملأ جنبات روحي، وأتمنى أن أكون قد وفيت شكر ما أوتيت من نعم." فضحك العجوز حتى برزت عظام حنجرته كلها، وقال في صوت متحشرج: "لم تكتف من الدنيا أيها الأنيق. ولو اكتفيت، لزهدت في مزرعة زهد فيها من هو أقل منك رزقا وسعة."
لا يكتفي المرء من الدنيا أبدا مهما أوتي من خير. والأغنياء هم أشد الناس حرصا عليها، لهذا تراهم لا يتورعون عن الوقوف أمام الأخشاب المتهالكة ليطرقوا أبواب الفقراء الذين لا يجدون ما يستر عوراتهم أو يسد جوعتهم. فلا يكتفي الثري بتسع وتسعين نعجة، وتراه دوما ينظر إلى ما وراء الأسيجة ليتلصص على الألف الذي يكتمل مليونه الألف.
لم ينظر الغني إلى أسمال الفقير ولم يشعر بفاقته وهو يخرج إليه من شق الباب عاريا أو يكاد. ولم يسأل نفسه عن سر زهد فقير فيما آتاه الله حلالا طيبا. بل ويجد لنفسه آلاف المبررات للسطو على أرض هذا أو اقتناص فرصة هذا في التعيين منتحلا آلاف المبررات التي لم يعد يهز لهاأحد رأسه، وكأن الأرض لم تخلق إلا له ولذويه وأقاربه والمعارف. ويستكثر الغني على الفقير ثلاث وجبات يقيم بها إوده، فتجده يطالب الفقراء بالتخلي عن الوجبة الثالثة لإصلاح الشرخ الاقتصادي الذي صنعه هو وأمثاله. وحين يركب سيارته الفارهة، تراه يلتفت إلى السيارات التي تتجاوزه يمنة ويسره، ويغص بصره تماما عن الباعة الجائلين فوق رصيف الوطن وقد غطت وجوههم الأحزان والأتربة.
لن يجد الزاهد في هذه البلاد من يستحق عطيته، فكل الناس في بلادي لا يرون إلا العمارات الفارهة التي يمتلكها زيد، ولا يجيلون أبصارهم إلا في الأرض الفضاء التي استولى عليها عمرو. وقد أغشت الدنيا أبصارهم وبصائرهم. أما الزهد، فلا تكاد تسمع عنه في بلادنا إلا في روايات السلف التي نمصمص لها الشفاه كلما سمعناها من فوق أخشاب المنابر. وعندما نخرج إلى امتحانات الحياة، نقف بسياراتنا الفارهة أمام أول كوخ لنساوم البسطاء على حظهم القليل في حياة لم يعد أحد فيها يحس بأحد، ولم يعد أحد فيها يرحم أحدا.

عبد الرازق أحمد الشاعر
[email protected]
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 01-نوفمبر-2024 الساعة: 12:12 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-55580.htm