صنعاء نيوز - إن الانحراف السياسي الذي وقع في شؤون الحكم ما بعد النبوة والخلافة، ومنذ العصر الأموي، قد جعل الفكر السياسي العربي الإسلامي

الجمعة, 08-يونيو-2018
صنعاء نيوز/ بقلم الشيخ: عبد الغني العمري الحسني. -


إن الانحراف السياسي الذي وقع في شؤون الحكم ما بعد النبوة والخلافة، ومنذ العصر الأموي، قد جعل الفكر السياسي العربي الإسلامي، يلقي بظلاله على التدين من الجهة العقدية على الخصوص. وهذا الخلط الذي وقع بين السياسة (بما هي ميل وترجيح لا بما هي أحكام) والعقائد، لم يكن ليساعد على الإبقاء على أصل الدين، ولا على وحدة الأمة.

ولقد زاد من حدة الأمر جهل جل الفقهاء بأحكام الحكم، التي تختلف بين الخلافة والملك، قبل أن يدخل عليها الفكر الاشتراكي أو الديمقراطي بعد ذلك، ليزيدها انبهاما. ومن أول ما كان ينبغي التنبيه إليه في هذه المسألة، هو أن الخروج من النبوة إلى الخلافة ثم إلى الملك، هو حتمية قدرية، لم تكن الأمة لتتمكن من فعل عكسه، وإن توهم المتوهمون ذلك. ثم إن أحكام الحكم الظاهرة، والتي هي مما يعتني به الفقه من جانب التحليل والتحريم، ليست قدَرا كما يتوهم العامة؛ وإنما هي معيار لما يكون من شأن الحكام؛ على الصورة عينها التي تُقيَّم الأفعال الفردية فيها بالرجوع إلى أحكام الشريعة العامة. ثم إن الحكم في نفسه ليس غاية، بحسب ما يفهم منه الفاهمون؛ وإنما الغاية الله والآخرة. نقول هذا، لأن كثيرا من الجاهلين، يرومون الكمال في الدنيا، إلى الدرجة التي لن ينقصها عندئذ، إلا الخلود لتعود آخرة. وهذا مجانب للصواب من جهة العلم، الذي ينبغي أن يعتبر المتغيرات، والتي من بينها المخالفات الشرعية المتعلقة بالحكم خصوصا.

ولما اشتغلت العقول الضعيفة بالأمور السياسية، فإنها سريعا ما دخلت في أيديولوجيا يُعمل لها من قبل بعض الجماعات والأفراد. وبما أن هؤلاء لا علم لهم بما يتعلق بالقدر من علوم وآداب، فإنهم سيدخلون في مخالفات شرعية جماعية وفردية، تفوق تلك التي أرادوا الفرار منها أول الأمر. وهذا هو عينه الذي نراه في زماننا، بعد المصائب التي حلت بالشعوب العربية، من وراء عمل الجماعات الحركية الإسلامية.

نحن هنا لا نريد إقرار الحكم الملكي (يدخل في معناه الحكم الجمهوري أيضا) في البلدان العربية، على ما هو عليه من مخالفة لأصول الحكم الشرعية؛ وإنما نبغي التوفيق بين الأمر الشرعي والقدر المحتوم. فإن امتنعت إقامة الحكم الشرعي في زمن ما، فإن الشريعة تقتضي طلب موافقتها في التفاصيل المتاحة دائما. وهذا يخالف ما تدعو إليه الجماعات الحركية من منابذة الحكم القائم، والعمل خارج السياق العام، إلى حين إقامة حكم شرعي بحسب الزعم؛ لأن في هذا الفعل تعطيلا لأحكام الوقت، التي يمكن أن يكون من بينها التعاون على البر والتقوى، والنصيحة وتغيير المنكر. وهذا مجال واسع من فقه العمل السياسي، لن نخوض في تفاصيله لاتساعها.

إن المسلمين اليوم، يكادون يُجمعون على الكفر بصلاحية نظام الحكم الشرعي، كما هو في أصله. أولا، لجهلهم بأصول هذا الحكم العلمية؛ فهم لا يكادون يميزون، إلا بعض ما يتعلق بالعدل والأمانة فيها؛ وثانيا، لأن تصورهم للحكم لا يخلو من أمور دخيلة، وردت عليهم من الفكر السياسي العالمي. وإن التوفيق بين الشريعة والفكر العالمي (الديمقراطي على الخصوص)، لا يكاد يخلو منه علم علماء الدين اليوم، فضلا عن العوام الذين تربوا تربية هجينة منذ صباهم. بل إن شطرا كبيرا من المسلمين، ما عاد يطلب إلا الديمقراطية، من دون أن يعلم أصلها، ولا مدى موافقتها أو مخالفتها للشريعة؛ وكأن أمر الحكم صار اجتهاديا، لا أصل له في الوحي (النصوص). بل إن كثيرا من المفكرين الإسلاميين، صاروا يقولون صراحة، بعدم وجود نموذج إسلامي يُعد التزامه عبادة من جملة العبادات؛ وإنما يرون أن الدين قد ترك أمر الحكم لينظر فيه الناس في كل زمن بحسب ما يعنّ لهم. وهذا أمر خطير، له تبعات على عقيدة العبد وعلى عبادته. إذ كيف يعتني الإسلام بتفاصيل الوضوء، لنجدها منصوصا عليها في القرآن، ولا يعتني بأمور الحكم التي هي أعم أثرا بما لا يقارن. إن قولا كهذا، لا يعني إلا أن إدراك الدين قد أصابه خلل كبير، انطمست معه المعالم، وانقلبت الأمور.

وإن حققنا النظر، فإننا سنجد مسألة الحكم لا يحيط بعلمها الفقهاء ولا العامة؛ وإنما هي من اختصاص الربانيين، الذين انقطعت الأمة عنهم بفعل التوجيه الفقهي القاصر، منذ القرون الأولى؛ بل منذ القرن الأول. ولولا هذا الانقطاع المفضي إلى الفتنة، لما قتل المسلمون عليا عليه السلام وهو الخليفة الرباني الذي لا يشك في خلافته اثنان؛ ولا استقام الحكم ليزيد والحسين عليه السلام يُخالفه. إن الجهل المؤدي إلى انعكاس الأحكام، هو الذي أدى إلى وقوع ما لم يكن ينبغي أن يقع من جهة الشريعة. وأما من جهة القدر، فما وقع، هو ما كان ينبغي أن يكون؛ ولا يكون إلا ما أراد الله، بغض النظر عن موافقة الشرع أو عن مخالفته.

إن الإيغال في التنظير، والسماح للفكر المنفصل عن العلم وعن الواقع، بتصور ما لا يكون إلا في عالم التجريد، قد أدى اليوم إلى اعتماد فكر ديمقراطي، لا سند له إلا في الخطابات الدجالية التي تريد أول ما تريد، أن تقطع الأمة عن أصولها الدينية الربانية؛ لا لتخرج إلى نظام مخصوص في البداية، ولكن لتنخلع عما كانت عليه (من جهة العلم). وبعد ذلك يسهل إقناعها بجدوى النظام الدجالي الذي تريد القوى العالمية المهيمنة أن تعلن عنه في العقود القليلة المقبلة.

إن كلام كبار السياسيين في العالم من مدة، عن النظام العالمي الجديد، ليس إلا مقدمة شبه نظرية، يقصد من ورائها تهييء سكان العالم، لقبول الحكم الدجالي الذي سيُفرض بالقوة. وإن ابتعاد المسلمين عن أصول دينهم، وانفعالهم للإيحاءات الديمقراطية الجوفاء، لن يزيد العقل العربي إلا بعدا عما فيه خلاص الشعوب، بأشد مما هو الأمر عليه الآن من فوضى في مجال الحكم والسياسة؛ قد صارت مهزلة، لا يقبل بها إلا من لا عقل له!...

تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 26-أبريل-2024 الساعة: 08:04 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-60904.htm