صنعاء نيوز - بقلم الشيخ: عبد الغني العمري الحسني.

       إن المناهج الغربية التي يعتمدها المفكرون العرب في فهم النص القرآني والحديثي، اللذين تدور حولهما الحضارة الإسلامية،

الإثنين, 11-يونيو-2018
صنعاء نيوز/ بقلم الشيخ: عبد الغني العمري الحسني. -

إن المناهج الغربية التي يعتمدها المفكرون العرب في فهم النص القرآني والحديثي، اللذين تدور حولهما الحضارة الإسلامية، لا يمكن أن تجدي. والسبب هو أن العقل الغربي الكافر المقلَّد، وإن كانت به بقية تنصّر، لا يميّز بين الكلام الإلهي والكلام البشري من الأصل. والعلة في هذا عنده، هي كون النصوص الدينية لم تبلغه إلا مترجمة. والترجمة لا تخلو من دخول التفسير الشخصي للمترجِم، الذي قد يُحرف المعنى المراد، إما عن قصد، وإما عن غير قصد.

والهرمنوطيقا التي يُراد من ورائها استنطاق النص (أي نص)، معزولا عن قائله، وكأنه كائن مستقل في حقيقته؛ لا يمكن أن تنتج معرفة معتبرة، وإن كان ظاهر الأمر يوحي بتوخي التجرد والحياد. وإن كان لا بد من إقرار بالتجرد والحياد، فإنه سيكون تجرد موت وحياد جمود.

عندما أراد المفكرون العرب -نعني المستغربين- أن يتناولوا النص القرآني بالدراسة، نسوا (أو أهملوا لضعف إيمانهم أو لانعدامه) أنه كلام الله. وكلام الله لا بد أن يكون مخالفا لكلام الناس؛ وإلا كان الأمر من بدايته اختلاقا وتزويرا للحقائق. نحن لا نشك أن بعض المفكرين، يعتقدون أن القرآن كلام بشري، أنتجته ظروف تاريخية واجتماعية مخصوصة؛ لكنهم لا يجرؤون على التصريح بما يعتقدون، نظرا لإيمان مجتمعاتهم بعكس ما هم عليه. والمجتمع إذا خولف، فإنه يكون ماحقا لمخالفه؛ والمصلحة تقتضي إتيان الموضوع بحذر كبير من قِبلهم، مع إصرار على الاستمرار على التوجه ذاته. ولكن الأمر لا يخضع للأمزجة أو الظنون، من الطرفين؛ وإنما ينبغي أن يُرد إلى الأصل المطابق للحقيقة كما هي في نفسها.

والكلام الإلهي (القرآن)، يفارق الكلام البشري في كون معانيه ليست منوطة بالألفاظ وحدها، كما هو الشائع في اللغة؛ وإنما هي عائدة إلى الحروف بالدرجة الأولى. وهذه الحقيقة ستجعل القرآن من جهة الظاهر وحده، ذا سياقين متباينين. والسبب في هذا الأمر، هو أن اللغة في أصلها، والتي كانت وحيا من الله لآدم، هي لغة حروف. والتركيب الذي أعطى الكلمات فيما بعد، إنما جاء بعد مرحلة البساطة تلك بمدة؛ عندما بعُد الناس عن الأصل الرباني للغة، وعندما اختصت الأقاليم في الأرض بلغات يمتاز بعضها عن بعض، لأسباب عديدة. وإن ما يدل على هذا الأمر من السنّة، والناس لا يشعرون، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ؛ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ.»[1] . وإدراك معاني القرآن من هذا الوجه، لا يعلمه إلا آحاد الأولياء على مدى الزمان كله. ولقد نبه إلى هذا الوجه القطب المغربي الكبير، سيدي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه، في الكلام المنقول عنه في الإبريز. ولكن ما ذكرناه، يدل على أن معاني الألفاظ في القرآن، ليست كما هي في الكلام البشري، وإن كان لعوام المؤمنين مأخذ من ظاهره لا يُنكر. ولو تنبه الناس إلى عدم بلوغ النهاية في معاني التركيب اللفظي القرآني، لعلموا إعجاز القرآن الأول، والذي سيفتح بابا مجهولا من العلم، لا يعلمه إلا الخواص. وهذا الإطلاق المعنوي، المصاحب للتقييد اللفظي، هو ما أشار إليه الله في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]. إن كتابا لا تنفد معانيه، لا يمكن أن يزعم قوم من قاصري العقول، أنهم سيتمكنون من دراسته، مهما بالغ النظام الدجالي العالمي في دعم هذا التيار، بقصد التغطية على الخصوصية الإلهية الثابتة.

وإذا أقررنا بإلهية القرآن، فإن فهم معانيه كما هي في نفسها، لا يكون إلا بإعلام إلهي. وعلى هذا ينبغي أن يُحمل قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1، 2]. والمقصود تعليم اللفظ والمعنى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعليم المعنى لسواه من المؤمنين؛ كلٌّ على قدر مكانته عند الله. وإن كانت معاني القرآن تُطلب من الله، فإننا سنجد المفكرين الذين لا يجاوزون ما تعطي عقولهم، منقطعين عنها، ممنوعين من الحوْم حول حماها. فكيف إذاً يمكن اعتبار مقالاتهم في القرآن، وهم على هذه الحال!... بل إن الفقهاء (علماء التفسير) أنفسهم، قد تقيدوا في أغلب ما فهموه بعقولهم (وإن كانت مؤمنة). وبقي القرآن من وراء عقولهم غير ممسوس؛ {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]. ولو أن الناس كانوا يأخذون فهم القرآن عن الله، ما كان الاختلاف يظهر منهم حول الآية الواحدة، إلا من جهة المكانة!... وهذا في الحقيقة تراتب، لا اختلاف بالمعنى المعروف. يقول الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فالاختلاف في الفهم، يعود إلى اختلاف العقول، لا إلى المعنى.

وما ينبغي أن يعيه الناظرون في كلام الله، هو أن الكلام الإلهي حي، يتموج بالمعاني في كل وقت وحين؛ وليس ككلام الناس الذي يولد ميتا، ويبقى على حال واحدة طول الأبد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صفة القرآن بقوله: «هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ.»[2] . ثم إن فهم القرآن يكون على طبقات، بحسب مكانة العقول. وقد أشار إلى هذا التعدد الطبقي، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ»[3] . والأحرف هي الأوجه؛ والظهر والبطن هما الوجهان اللذان الواحد منهما لأهل الظاهر، والآخر لأهل الباطن. والعقل إن لم يعتبر خصائص القرآن عند النظر فيه، فإنه يكون مخلا بمقتضيات العلم، غير مأمون على ما يخرج به من فهم. ولقد رأينا في زماننا، من يتجرأ على القول في القرآن، وهو غير مؤهل لفهم كلام أمثاله من الناس. فما أعجب هذا!...

________________________________________

[1] . أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] . أخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب عليه السلام.
[3] . أخرجه ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه.

تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 24-أبريل-2024 الساعة: 03:51 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-61009.htm