صنعاء نيوز - العقل العربي ومآلاته -42-
ترتيب العقول

       يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.»[1]. الأمور لها منطق تمشي عليه

الأحد, 30-سبتمبر-2018
صنعاء نيوز/ بقلم الشيخ: عبد الغني العمري الحسني. -

ترتيب العقول

يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.»[1]. الأمور لها منطق تمشي عليه في كل مجال. ولكل أمر أهل، يدبرونه ويرعونه ويحفظونه. فإذا تعطل العمل بمنطق الأشياء، حلت الفوضى التي هي مقدمة الساعة. والساعة تكون بالمعنى الضيق، متعلقة بأمر مخصوص عند انتهائه؛ أو تكون بالمعنى الواسع، الذي يعني فناء الدنيا، عند عموم الفوضى وتفكك نظامها.

إن المجتمعات البشرية، ينبغي أن يقوم عليها، أفضل أفرادها وأرجحهم عقلا. ولقد خصصنا العقل، دون غيره من مظاهر القوة كالمال أو القوة العسكرية، لأن العقل ينبغي أن يكون حاكما على الجميع. وإن انعكست الأمور، كما هو الشأن في أزمنة الفتنة، إلى أن يصبح الزمام بيد من لا عقل له، فتلك البشارة بالنهاية.

ونحن عند كلامنا عن مراتب العقول في الفصول السابقة، فإننا كنا نريد أن يعلم القارئ الأعلى من الأدنى فيها، حتى يتمكن من الخروج بتصور سليم، وإن لم يكن محيطا بكل التفاصيل. وعندما ندل على كون العقل الرباني ينبغي أن يكون مشرفا على الجميع، فإننا لا نريد من ذلك تقليد أصحابه الحكم بالمعنى السياسي؛ وإنما نقصد أن يكون مرجعا، يعود إليه السياسي وغير السياسي. عندما نحافظ على ترتيب العقول في مجتمعاتنا، فإننا نكون قد عملنا على إطالة عمر بناء مجتمعاتنا. وأما في حالة تفريطنا، فإننا سنحكم على مجتمعاتنا بالانهيار المادي والمعنوي معا.

إن مجتمعاتنا منذ عقود، قد بدأت تظهر عليها مقدمات الانهيار. وإن الساسة -بسبب عظم الخطب- لم يتمكنوا من علاج الأزمة على مستوى جذورها، لأنهم في الغالب قصيرو النظر، لا يطمحون إلا إلى تثبيت حكمهم لمدة مخصوصة. والنخب قد ضعفت بسبب هيمنة العقل المعاشي عليها، فأصبح وجودها كعدمها. وبقيت الشعوب في مواجهة الأمر، وهي غير مؤهلة لذلك. فصرنا كمن أصبح وقد فقد كل ما كان يستند إليه في شؤونه. وإن الاستمرار على هذه الحال، لا يُضمن أن لا تأخذ الشعوب معها زمام أمرها بما تراه؛ ولن يكون إلا العنف الشديد، الذي يدمر معالم الدول، ويعيد الأوطان إلى نظام أقرب إلى الأناركية التامة.

إن على الشعوب -إن لم تكن تريد المغامرة- أن تقدم أصحاب العقول الربانية، إن هي ميّزتهم؛ لتتقي بهم كل صنوف الفوضى التي ستدخلها حتما بدونهم. وعلى أصحاب العقول المتوسطة من مفكرين وفقهاء صادقين، أن يعينوا مَن دونهم على تبيّن الترتيب بإخلاص؛ بل عليهم أن يكونوا في مقدمة من يدعون إلى مرجعية الربانيين في مجتمعاتهم؛ علنا ودون تردد أو خوف. إن الأزمة قد بلغت مدى لا متسع من الوقت معه، ولا سعة في النظر. فإما أن نحافظ على البقية مما لدينا، لنبني عليها بناء سليما؛ أو نفقد كل شيء، ونسلم أمرنا إلى المجهول.

إن أول ما على الشعوب العربية أن تسلّم به، هو اختلاف العقول في المراتب؛ لأن النظام الدجالي العالمي قد عمل فيها منذ مدة، بما جعلها تعتقد أن كل عقل هو من طبقة المفكرين، وأن كل مفكر هو مساو لغيره من المفكرين. وهذا هو مكمن الداء، الذي تنبغي معالجته بتبيين شروط المراتب العقلية للعموم، في الدروس الرسمية في المعاهد المختصة؛ أو في المنتديات الحرة. إن عملية التوعية بتراتب العقول، ينبغي أن تتسع في المجتمعات، لتشمل أكبر قدر من الناس؛ من أجل أن يتوحد التوجه عند إرادة التحرك الجماعي.

إن الأمر في هذه المرحلة، ما عاد متعلقا بتثبيت أنظمة حكم، أو بتحصيل منافع عاجلة، بقدر ما هو إنقاذ للأمة من الزوال. وإن النظام العالمي العولمي، لن يمهل الغافلين حتى يدركوا حقيقة ما يحيط بهم؛ وإنما سيعاجلهم بما لا يخطر لهم على بال.

إن من أهم ما ينبغي العمل عليه في البداية، وينبغي أن تتوحد عليه الجهود، تثبيت المعايير العامة لدى العموم؛ ومن جهة أخرى منعهم عن تحكيم تلك المعايير على كل ما يعرض لهم؛ خصوصا إن كان كلاما يصدر عمن هم أعلى مرتبة منهم. إن هذا الانضباط يجب أن يعم جميع مستويات البنى الاجتماعية، بدءا من الأسرة وانتهاء بدائرة الحكم.

ليس ما ندل عليه من تغيير في الرؤى وتغيير في أساليب العمل، مما يُدرك بسهولة؛ خصوصا إن اعتادت الشعوب الفوضى طيلة قرون؛ ولكن مع هذا، ليس علينا أن نستسلم لثقلنا الفيزيائي ولقوة الجاذبية أثناء سقوطنا، وكأننا جمادات تهوي في مكان سحيق. والأجدر بأمتنا أن تتمسك بما تعلمه من الحق، وأن تتعاون على البر والتقوى حقيقة، لا تصنعا.

إن المرحلة التي نحن مقبلون عليها، هي مواجهة حتمية في كل مكان من العالم، مع الباطل الذي يبغي أهله أن تكون له الصولة وحده. إن كل تقاعس عن الانخراط في عمل جماعي عربي وإسلامي من الآن، يكون بمثابة التوقيع على صك خسران الدنيا والآخرة؛ لأنه إن كانت القوى العالمية في السابق، تحتال من أجل تجريدنا من أموالنا وخيرات بلداننا، فإنها اليوم لن تكتفي بذلك؛ لأنها تريد استعبادنا استعبادا حقيقيا، تُملك فيه رقابنا قبل الأموال والأوطان.

لا ينبغي على الشعوب العربية، أن تتمادى في خيالها، وتتصور المستقبل على صفة ما هو عليه الواقع، على سوئه؛ إن الأمر أفدح من ذلك بكثير!... وإن كل تفريط في الوقت وفي الجهد اللذين يجب صرفهما في وجههما، لهو ضرب من ضروب الانتحار الجماعي من غير شك...

________________________________________

[1] . أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 25-أبريل-2024 الساعة: 09:31 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-63027.htm