صنعاء نيوز - الدكتور عادل عامر

الأربعاء, 22-مايو-2019
صنعاء نيوز/ الدكتور عادل عامر -


تعد مسألة التمييز العرقي موضوعَ النقد الأخلاقي الأبرز للتوظيف التاريخي والمحتمل لعلوم الوراثة، ويعد هذا النقد من جوهر ما تدعو إليه الأخلاق الإسلامية من المساواة بين البشر وحصر تفاضلهم بالتقوى، إلا أن هذا النقد جدير أن ينسحب إلى مباحث في الفقه الإسلامي تقوم أساساً على اعتبار صريح للنسب في مبحث شرط الكفاءة في الزواج، وإقرار هذا الاعتبار لدى جمهور المذاهب الفقهية يستند إلى المصالح أكثر من استناده إلى الأدلة والنصوص، والتي تقتضي خلافه، فإقرار هذا الاعتبار – والذي هو جار في أعراف بعض المجتمعات المسلمة– ليس إلا وجهاً آخر من السعي التاريخي في بحوث الوراثة (اليوجينيا) وراء النقاء العائلي، والذي كان سبب السمعة السيئة لبحوث الجينوم ما قبل السبعينات.

إن القارئ لمباحث الكفاءة الزوجية المتصلة بالنسب (يمكن النظر لخلاصتها في مصطلح "الكفاءة" في الموسوعة الفقهية الكويتية) ليلحظ ضعف المستندات والأدلة في اعتبار خاصية النسب في الكفاءة، ويلحظ تقديم الأعراف والتقاليد والمبررات الأخرى لإقرار هذه الخاصية، والأمثلة التي أوردوها تؤكد على حجم التمييز غير الأخلاقي بين أصناف الناس، وهم المسلمون بطبيعة الحال، فثمة فرق بين القرشي وغير القرشي من العرب، وتفضيل للعربي على الأعجمي، فضلاً عن التفريق بين الأحرار وغيرهم، أو من موالي من ذكر.

إن وهن الأدلة الشرعية للتمييز النَسَبي في الكفاءة في الزواج الذي راعاه معظم الفقهاء (ما عدا مالك وسفيان الثوري وآخرون)، لا يقلل من أهمية نقد هذا المبحث ومراجعته، وبيان التبريرات الأخلاقية التي اعتمدها الفقهاء، وهم أنفسهم من وضعوا معيار الكفاءة في الدين أولاً، ويعزز هذه الأهمية قبول هذا المنظور في الأعراف والمجتمعات الإسلامية على مستوى الممارسة، في الوقت الذي تنتقد فيه النزعات العنصرية في بلدان غير إسلامية.

ثمة أسئلة أخرى يمكن أن تضاف للنقاش في هذه الزاوية: هل يمكن التفرق بين الاختيار الشخصي الفردي على المستوى العائلي وبين الاختيار المجتمعي / السياسي؟ ما المعايير للتفريق بينهما؟ وهل يمكن تبرير شيء من الاختيارات الشخصية التي تقتضيها الأعراف الاجتماعية مما له صلة بالفروق الجينية بين الناس؟ ولو تم تبرير شيء من ذلك فهل يمكن السماح بتوظيف بحوث الجينوم في ذلك ضمن ضوابط معينة؟ وأسئلة أخرى تثيرها بعض الأحكام الفقهية المتصلة ذات الصلة، وهي أسئلة أخلاقية بالدرجة الأولى.

تترك آثار الاختبار الجيني أسئلة حائرة في ضبط المسؤولية عن الآثار الصحية المستقبلية المحتملة، ومن ينبغي أن يبادر لتلافيها؟ مسؤولية الدولة عن صحة المجتمع، مسؤولية الفرد عن صحته، مسؤولية الأبوين عن صحة طفلهما ونسلهما، متى يصبح من الواجب اتخاذ أسباب الوقاية؟ وماذا يترتب على إهمالها؟ هل من فرق بين مستويات من الأمراض بعضها محتملة وأخرى غالبة؟ ماذا لو تنازعت رغبة الوالدين في الإنجاب مع غلبة الظن أن ولدهما سيكون معاقاً؟ هل يتحملان المسؤولية في ذلك؟ وما الأثر لو اكتشف ذلك أثناء الحمل على حكم الاجهاض الذي هو مركزي في آثار بحوث الجينوم؟ كل ما سبق يبنى على المعلومات التي يكشفها الاختبار الجيني، فمن يملك حق الكشف عن هذه المعلومات؟ وحق إذاعتها؟ الفرد، العائلة، الدولة، القضاء؟ ماذا لو تنازعت فيما بينها؟ ماذا عن المعلومات المتعلقة بالقاصر؟ ماذا لو اكتشفت المعلومات عرضاً أو من غير إذن؟ ماذا لو تعينت للكشف عن الحقوق في القضاء؟ هل تعد قرينة أو حجة في الدفع أو الإثبات؟

هل يمكن للمعلومات الجينية أن تكون مصدراً في الادعاء الجنائي كحالة وجود أثر على جثة القتيل يمكن أن يقود البحث الجيني للكشف عن هوية القاتل المجهول المحتمل؟ هل للمعلومات الجينية عوض مادي محتمل؟، هل يمكن الضنُّ بها عندما تتعين الحاجة إليها؟ هل يمكن للفرد البحث عنها من غير حاجة؟ هل يمكن أن تترك أثراً رجعياً على العلاقات العائلية والنسب والإرث؟ ... أسئلة كثيرة أجيب على بعضها في دراسات فقهية جزئية، وما يزال أكثرها معلقاً يحتاج إلى اجتهاد معمق، وتقرير المعايير المناسبة التي يمكن الاستناد إليها.

إن ما أوردته من قضايا وأسئلة يمكن إثارتها ودرسها في الأخلاق الطبية ذات الصلة بمشروع الجينوم، إنما تبنى على ما يتقرر علمياً من حقائق وتقديرات غالبة وليس على احتمالات، وكذلك بناء على تطبيقات للاختبارات تراعي علمياً شروط الوصول للنتيجة المعتبرة، وهذا ما نبَّه إليه بعض الباحثين في الكتاب لاسيما فيما يخص المجال القضائي، مع التحذير من النتائج الناقصة أو الواهمة، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما نبه إليه غير كاتب من التأكيد على الاحتراس من الثقة الزائدة في التكنولوجيا، فضلاً عن الاستخدام المتحيز لها، وعدم إغفال الأهداف المخبوءة في النظم التكنولوجية والتي بعضها غير أخلاقي.

إن القلق الأخلاقي سيبقى ملازماً للبحوث العلمية والباحثين، فالاكتشافات العلمية واستخداماتها أسرع من الدراسات النظرية، ومن غير الأخلاقي أن يتأخر علماء الدين والأخلاق في دراسة هذه القضايا، والاكتفاء بمعالجة آثارها على طريقة رجال الإطفاء في الوقت الذي كان يمكن أن يحال دون اشتعال الحرائق، لكن تلافي ذلك يقتضي استشعاراً مشتركاً بالمسؤولية من قبل الدول والمؤسسات والباحثين والممولين على حد سواء.

منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تصدرت علوم الطب والبيولوجيا مكان الصدارة في مجال التقدم العلمي المتسارع، بعد فقدان العلوم التجريبية وفي مقدمتها الفيزياء لهذه المكانة، عندما تطورت الادوات التقنية والطرائق المخبرية للتجريب على الحي والمستعارة من العلوم التجريبية الفيزيائية والكيميائية، وتعود اهمية العلوم الحيوية الى كونها ترتبط ارتباطا علاجيا وانطولوجيا واخلاقيا بحياة الانسان وبالتالي فأن هذه النهضة العلمية ادت الى تغير النظرة الى الانسان، من كائن مقدس الى انه ظاهرة خاضعة للتجريب،

مما اثار تساؤلات حول قيمة الانسان ومصيره ووظيفته في هذا الوجود، وهذه التساؤلات لم يجد لها العلم اجوبة مناسبة بالرغم مما يمتلكه من وسائل. لذلك كان على علماء الدين والفلسفة والقانون ان يقوموا بمهمة البحث عن تلك الاجابات، حتى ان بعض العلماء البيولوجيين قد تحولوا الى فلاسفة، مستوحين فلسفتهم من الابحاث البيولوجية بغية الوصول الى حلول للمشكلات التي تتمخض عن التقدم والتطور الذي شهدته العلوم، خاصة في مجال الطب والبيولوجيا وكيفية علاجها.

ومن اهم الحقوق التي يمكن ان يهددها التقدم العلمي في مجال تطبيقات الأخلاقيات الحيوية بالخطر هو الحق في احترام الكرامة البشرية، والحق في الحياة، والحق في الحرية الفردية، والحق في حماية الجنس البشري. ولكن الحق في احترام الكرامة البشرية يحتل مكانة بارزة في مجال الاخلاقيات الحيوية. ويعد هذا الحق مبدأً اساسيا من مبادئ القانون الوضعي، الذي عرف نجاحا كبيرا بعد الحرب العالمية الثانية.

ومن هنا وجد الكثير من الباحثين بانه لابد من العودة الى هذه الاخلاقيات التي تؤكد على احترام حقوق الانسان بالدرجة الاولى وعلى العلاقة بين المريض والطبيب، كذلك اخدت بعض المنظمات الدولية الاقليمية تهتم بهذه المسألة للحرص على عدم اساءة استعمال نتائج التقدم العلمي، ونتيجة لذلك اخذت بعض الدول في اصدار قوانين خاصة لدراسة المشاكل المرتبطة بمنجزات هذا التقدم، وخاصة في الولايات المتحدة الامريكية وكندا واوربا. وأنشأت هذه الدول لجانا وطنية للأخلاقيات الطبية والحيوية.

وقد لعب القانون دورا هاما في تطوير هذه الاخلاقيات، اذ ساهم رجاله بفاعلية في وضع المبادئ القانونية والاخلاقية التي تحكم اخلاقيات الطب وعلم الاحياء

فالقانون الفرنسي ينص على عدد من المبادئ الاساسية التي يجب ان تخضع لها التطورات العلمية التي حققتها الثورة البيولوجية. وإذا ألقينا نظرة على مواده نجدها تكرس ثلاثة انواع من المبادئ الاساسية في هذا المجال، النوع الاول يتعلق بالشخص ذاته، في حين يتعلق النوع الثاني بجسد الشخص، واخيرا يتناول النوع الثالث الجنس البشري.

وكذلك الحال بالنسبة للإعلان العالمي بشأن المجين البشري وحقوق الانسان الذي تبنته منظمة اليونسكو عام 1997 الذي شمل خمس وعشرين فصلا اقترحت فيها معايير كونية لضبط وتنظيم الابحاث العلمية في المحدد الوراثي البشري، وبشكل عام جميع الامكانيات العلمية الجديدة المتاحة في مجال تغيير طبيعة الاحياء وفكرة الاعلان الرئيسية هي ضرورة البحث عن صيغة للتوفيق بين بين حرية عمل الباحثين العلميين وبين ضرورة احترام النفس البشرية وكرامة الانسان وحماية البشرية عموما من التجاوزات المتعددة التي يمكن ان تنشأ عن ابحاثهم وتجاربهم. وقد تعهدت الدول الموقعة عليه باحترام المبدأ القاضي بأن (لكل فرد الحق في ان تحترم كرامته وحقوقه بغض النظر عن خصائصه الوراثية)

. وإذا كانت الدول الموقعة على بنود الاعلان قد حثت على مواصلة البحث العلمي في مجال المحدد الوراثي للإنسان فإنها في الوقت ذاته التزمت بمنع كل تصرف مسيء. وهكذا اصبحت الطريق ممهدة لصدور مجموعة من الاعلانات والمواثيق الدولية لحماية المرضى وللتأطير الاخلاقي لمهنة الطب. وقد اشتركت هذه الاتفاقيات على ان تكون الغاية النهائية من البحث العلمي هي سعادة الانسان ورفاهيته، ولا يجوز ان يرجح على مبدأ سمو الكائن البشري اية اولويات اخرى، وامام هذا التقدم العلمي في مجالات علم الاحياء والطب والوراثة يجب على المشرع ان يوفق بين متطلبات التقدم العلمي واحترام الانسان والانسانية. والاداة الاساسية لهذه الحماية تكمن في صون الكرامة الانسانية للجنس البشري

تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 29-مارس-2024 الساعة: 03:00 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-65940.htm