صنعاء نيوز - 
يعتبر فهم النظام السيميائي للغة الشعرية أكثر تعقيدًا من ذاك الذي للفن او للاعلانات مثلا. ولأن له معان مرجعية. يجب على المترجم أن يتعامل مع الدلالات والأيديولوجيا

الأحد, 12-يونيو-2022
صنعاء نيوز/ -




نداء يونس
يعتبر فهم النظام السيميائي للغة الشعرية أكثر تعقيدًا من ذاك الذي للفن او للاعلانات مثلا. ولأن له معان مرجعية. يجب على المترجم أن يتعامل مع الدلالات والأيديولوجيا ليكون قادرًا على فهم العلاقات الرمزية بين الدال والمدلول في ابعادها الايقونية والرمزية والاشارية.
تعتبر دورة حياة العلامات في الشعر عملية ذات شقين. يعتمد ذلك على النص ذاته وعلى تاريخ وقدرة المترجم على بناء واقع المعنى. وبهذا المعنى، يُبنى الواقع من خلال الكلمات وترجماتها.
تعتمد صورة درويش الشعرية بشكل كبير على إقامة علاقات جديدة بين الدوال والمدلولات وعلى الرمزية العميقة التي تكشف الكثير عن المعاني المرئية وغير المرئية أي ما يقال وما يتم تمثيله. من حيث التقنيات، يستخدم درويش Metonymy والمجاز المرسلSynecdoche والارداف الخلفي او التناقضات اللغوية Oxymoron من بين أمور أخرى. تدفع تقنيات بناء الصورة للكلمات المتشابهة والدلالات والثنائيات المترادفة/المتضادة الصورة للانتقال من المجال اللغوي المجرد إلى العوالم الفكرية المعرفية. يعتبر ضيق الوقت من الموتيفات الشائعة في شعر درويش.

قصيدة “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” التي كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 1986 كانت دعوة للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، شكل اليأس موتيفا تكرر ثلاث مرات في القصيدة. التي كانت نبوءة لاندلاع الانتفاضة الأولى في 1987-1988 وأصبحت هذه الجملة شعارًا رمزيًا كرره رماة الحجارة في كل مكان. تمثل هذه الجملة دعوة للتذكير بما يستحق الحياة على الأرض الفلسطينية وباحالة الى معنى رمزي واحد وهو ضيق الوقت الباقي لفعل شيء ما لقضية طال أمده نضال اصحابها. وهي بذلك ترتكز على موتيف “الزمن” ، الذي يتحول الى إشارة تنفتح على كل علاقة في القصيدة بين الدوال والمدلولات. اذ دون فهم الزمن كدال، :فان “نهاية سبتمبر” و”المشمش” و”المرأة”، والتي يُعتقد على نطاق واسع أنها جوهر هذه الشذرة الشعرية، يحول الترجمة الى اخفاق ويشكل معنى جديدا قد يدمر السياق او يستبدله.

في منزله الباريسي ، أخبرني أحد الأصدقاء أن محمود درويش غاضبًا من الترجمة الضحلة وغير ذات الصلة لجملة “امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها” التي وقعت عليها عينه صدفة اثناء تصفح مجموعته الشعرية “ورد أقل”، الصادرة عن دار Minuit، بالفرنسية، وألقى بالكتاب على الأرض، اذ قام المترجم، عبد اللطيف اللعبي، بترجمة “امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها” على النحو التالي: “امرأة تدخل الأربعين بكامل نسغها/عصارتها” -“une dame qui entre، de toute sa sève، dans la quarantine”.

تحيد هذه الترجمة المكونات السيميائية. فالمرأة هنا حامل جنسي، والدلالة ليست قصر الوقت بل الاغواء. الكلمة الفرنسية “quarantine” لها نفس المعنى :الأربعين ومنطقة الحجر الصحي؛ وهنا أدى عدم إضافة كلمة “d’age” كما في “quarantaine d’age” الى خلخلة في المعنى وارباك لمعنى quarantine الذي يتخذ مدلولا جديدا مربكا في اللغة الثانية هو المرض كاأن امرأة تدخل حجرا صحيا بكامل نسغها، وكذلك كان سيفعل المشمش الذي كان ليدل على الغذاء في سياق كهذا هذا لو ترجمت الكلمة التي قام المترجم بعدم ترجمتها أصلا رغم أهمية دلالتها.

لم يكن الفشل في فهم علاقة الدال بالمدلول مقتصرا على الترجمة الفرنسية، اذ ترجم كريم أبو عوض وآخرون الصورة نفسها باللغة الإنجليزية إلى “سيدة تتخطى الأربعين من عمرها دون أن تفقد ألقها”. لم تستطع كلتا الترجمتين ادرااك القصدية في نص درويش لأنها لم تأخذ في الاعتبار السياق ولا المعرفة الدنيوية المطلوبة لفهم سياق وقت المشمش وعلاقته بوقت القضية، ونهاية سبتمبر، وما توحي به الاربعون من اقتراب سن اليأس، وقِصر ساعة الشمس في السجن وهكذا.

لمتابعة علاقات الدال والمشار إليها في هذا الاقتباس، نبدأ بالدال الأساسي في الجملة “على هذه الأرض..”: الأرض، التي تعني فلسطين، والموضوع في هذه الحالة الوطن. هنا يستخدم درويش الأرض كرمز لفلسطين الوطن الذي طُرد منه. إن هذا الخطاب ما بعد القومي يعبر عن الانتماء للضرورة التي هي في حقيقتها ضرورة جمالية. كلمات مثل نهاية سبتمبر، امرأة، تدخل الأربعين، وبكامل مشمشها، وساعة الشمش في السجن وكلها تمثيلات تدل على الحصاد، والخصوبة وانقطاع الطمث، والموسم القصير لعمر الثمرة ولوقت الضوء لديها مرجعية واحدة لتفسيرها: الوقت القصير المتبقي قبل عمل أي شيء ويقصد هنا تحرير فلسطين. اذا، هذه العلاقات ترمز إلى القضية الفلسطينية. ولفهم ذلك، يجب أن نعلم أن هذه القصيدة كتبت عام 1986، وهو تاريخ إحياء الذكرى 38 للنكبة الفلسطينية.

مجازيا، يقول الشاعر هنا أن القضية الفلسطينية تقترب من مرحلة حرجة، لقد حان الوقت لحصاد ثمار النضال الطويل وإنهاء الاحتلال الذي طال أمده وانهاء قضية اللاجئين. تتحدث هذه القصيدة ببلاغة عن الشرط الإنساني كما طرحته حنا اردنت. وللتوضيح فإن الأربعين هي سن النضج العقلي والفكري وتحقيق الأحلام وجني ثمار الحياة. إنه أيضًا السن الذي يمكن أن تبدأ فيه المرأة بالشعور بالاكتئاب خوفًا من التقدم في السن وانقطاع الطمث. سبتمبر ، الشهر الذي ينتهي فيه الصيف ويقترب الخريف بخطوات واسعة، هو أيضا وقت الحصاد الذي يشير إلى نهاية العمل الجاد، وربما وقت الاسترخاء. لدينا كلمة “مشمش” التي تمثل دلالة أخرى تم إهمالها في معظم الترجمات التي قامت بتحويلها إلى أزهار كما في بعض الترجمات الى الإنجليزية أو الى “نسغ او عصارة” كما في ترجمة اللعبي.

لفهم الاستعارة هنا، يجب أن يعرف المترجم أن المشمش لا يعيش أكثر من أسبوع. موسم المشمش قصير جدًا وعادة ما يقطفه المزارعون بسرعة. يرسم درويش من خلال تقنية الإرداف الخلفي Oxymoron الوقت الذي يقترب من النهاية، وهو وقت العمل الذي يجب استثماره قبل أن يصبح من غير الممكن فعل أي شيء للقضية الفلسطينية، ونستدل على ذلك من خلال تكرار الإشارة الى الوقت الذي تشير اليه عدة دوال مثل حلول شهر سبتمبر، وسن الخصوبة عند النساء، وموسم المشمش. هذه أيضا علامات تحذير، اذ يتنبأ درويش بالمستقبل بينما يحذر من انقضاء الوقت الذي يمكن فيه انجاز شيء.

لسوء الحظ، في كثير من الترجمات لم يتم فهم هذه العلاقات السيميائية بدقة. وفقًا لذلك، أسيء فهم هذه القصيدة وتمت ترجمتها بشكل خاطئ كما هو الامر هنا ” a woman leaving forty in full blossom” للمترجم كريم أبو عوض. هذه الترجمة فشلت في إدراك العلاقة السيميائية. والنتيجة هي خلق معنى مشوه مختلف يقود القارئ إلى فهم دلالة دخول امرأة في الأربعينيات من عمرها تحمل سلة من المشمش وهي بكامل ازهارها وحيث تشير هذه الترجمة إلى مدلول جنسي اذ وحيث يدل المشمش على الإغواء والجاذبية. استنادا الى علاقة سيميائية لم يقصدها الشاعر، يدمر المترجم “الوقت” كمرجع. كما يؤدي الخلل في ترجمة الفعل الذي استخدمه دوريش اي “تدخل” الى ترجمة نقيضة أي “تترك” الى تفجير المعنى المقصود للقارئ وكل العلامات، حيث تصبح الوحدة بين الدوال التي تشير الى قصر الوقت والمشار إليها في هذه القصيدة غير ذات صلة. ويصبح معنى انقطاع الطمث كتحذير من العقم بلا معنى، وبالتالي، تنتزع رمزيته؛ وبالأحرى، يتم اعطاؤه بعدا رمزيا جديدا جنسيا ينزعه من سياقه وبما يمثل دعوة الى علاقة مع فتاة جميلة قبل أن تدخل في فترة يأسها والتي تدمر السياق الطبيعي لحب الوطن، اذ بهذه الترجمة يصبح حب امرأة احد أسباب الحياة على هذه الأرض وليست الأرض ذاتها وقضيتها وفي هذا تدمير للسياق.

تمس مشاكل الترجمة الأهمية المادية للإشارة التي لا يمكن ترجمتها وفقًا لدريدا، بالإضافة إلى الفشل في تعيين علاقات الدال والمدلول. هذه الأشياء لا يمكن بحال إهمالها اذ تؤدي اهم الأدوار على مسرح النص.

[1] من بحث قدم لد.فريدر ناكه ضمن مادة السيميائات، جامعة القدس أبو ديس، 2021
Print Friendly, PDF & Email
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 29-مارس-2024 الساعة: 05:37 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-84123.htm